تجليّات العشق والكتابة في قصّة “نفس أمّارة بالعشق*”للدّكتورة سناء الشّعلان
التّجريب في كتابة القصّة القصيرة ضرورة حتميّة على مستوى الشّكل واللغّة للإمساك بالقارئ “المتلقي” من خلال اللّفظ ومدلولاته في الهدم والبناء و مجازيّة اللّغة والانزياح ورمزيتها المشحونة بطاقة الدّهشة والمفارقة ومغزاها، وهذا يبدأ منذ الوهلة الأولي من خلال العنوان بصفته رأس النّص،إذ يوليه الكتاب عناية فائقة وأهميّة خاصّة.عنوان قصّة ” نفس أمّارة بالعشق” عنوان مغاير ومفارقة بلاغية لتناص متفرّع عن جملة قرآنيّة ” النّفس أمّارة بالسّوء من قوله تعإلى في سورة يوسف﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚإِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚإِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾)1)جاء توظيفاً بارعاً لسحب القارئ للبحث عنه داخل النّص دون توقف،وهو توظيف جاء موفّقاً جدّاً بصفته مفتاح تقني يجسّ به السّيمولوجيّ والقارئ نبض النّص من أجل الولوج إلى أغواره .
قصّة هي”نفس أمّارة بالعشق” هي انزياح دلاليّ لنّص قرآنيّ معاكس للمعنى الأصلي أدّى إلى الشّعور بالغبطة والإمتاع والإثارة لاقتباس حقّق المعنى المعاكس بوضوح .فسحبنا العنوان عنوة إلى دلالات متعدّدة القراءات من خلال مواجهة التّقابل المضاد في استبدال كلمة ” السّوء” بـ ” العشق” الذي يمثل أعلى درجات الحبّ لب الحياة الإنسانيّة؛إذ من دونه تصبح الحياة عبثاً وخواء والوجود عماء وعديم الفائدة،وفي هذا المعنى يقول الفيلسوف والعالم الجليل ابن سينا :” واجب الوجود عشق وعاشق ومعشوق”
وبفضل العشق وصل المتصوّفة إلى ما وصلوا إليه من آفاق وبلوغ منتهى المنتهى في نصوصهم وأشعارهم وعباراتهم الخالدة التي أثّرت في الإنسانيّة غرباً وشرقاً. ومن خلال هذه القصّة القصيرة للدّكتورة سناء الشّعلان نجد إعادة لطرح رؤى المتصوّفة وتساؤلاتهم بوعي قادر على التّبرير بسرد مكثف من جديد عن العشق الذي عدّه الصّوفيّة مقام التّوحيد في اتّحاد العاشق والمعشوق بلغة معياريّة وانزياحات شعريّة خارقة حيث تقول الكاتبة الشّعلان:” من الله أخذتُ نفسي الأمّارة بالعشق”(3).العشق الآصرة المتنية التي تربطنا بالخالق المعشوق،وهي من فعل النّفس وفق ما يقول “جالينوس” في مؤلّفه الشّهير “امتزاج النفوس” :”إنّ العشق من فعل النّفس الكامنة في الدّماغ والقلب والكبد” .
وهنا لابدّ من التّذكير بأنّ الدّكتورة سناء الشّعلان تؤمن بأنّ العشق والحبّ هما الطّريقان الأوحدان لعبادة الخالق “المعشوق”،ومن خلال العشق نولج باب الاستبصار لنصل إلى الإيمان المؤدّي إلى الحق وإلى الخالق الذي وحده من يحي ويميت ويستبدل السّيئات بالحسنات.
فمن خلال هذا الاستهلال نستطيع أن نخمّن أنّها تريد أن تقطع الطريق على أولئك الكافرين بالعشق والمخلوعين من الحبّ؛فهي تشهر عن نفسها الأمّارة بالعشق،والله وحده من يغفر لها وللعاشقين.وفي هذه القصّة القصيرة برهنت الكاتبة وكشفت عن مهارات في الأداء والأسلوب في الكتابة عن ثيمة العشق من منظور تخيليّ نابع من واقع النّفس،فتخطّت بذلك قصص العشق المتعارف عليها،وهذا ما يميّزها عبر تصوّر معرفيّ وفلسفيّ للفكرة،يتحقّق بممارسة واعية لما تكتبه من غير المساس بالمرتكزات الفنّيّة للسّرد الحكائيّ عبر اشتغالات الميتاسرد في مستويات البناء والكشف التّناصي وإثراء فكرة النّص برؤية الكتابة المفارقة :”لي نفس أمّارة بالعشق،ولي قلب لايَبْرَم بضعفه الآسر، ولي ربٌّ وحدَه من يغفر خطايا العاشقين،ويبدلهم بسيئاتهم حسنات،ويدخلهم جنات ونعيماً،ولي سيرة هلاليّة يحفظها كلّ من ركب سَرْجَ قلبه،وشنّ حرباً دامية على كائن آخر اسمه حبيبه،وسيرتي يختزلها كلّ المؤرخين والمخلوعين في حرفي حاءٍ وباءٍ، وبين منحنيات حروفهما وانزلاقاتها تسكن كلّ اللّعنة،لعنة العشق التي توهب مجاناً لكلّ من يملك نفساً مثلَ نفسي”.(4)
كتبت الدّكتورة سناء الشّعلان كثيراً من النّصوص والمطوّلات السّرديّة “الرّواية”عن العشق،كما لعب العشق ثيمة رئيسيّة في أعمالها المتعدّدة.وهذا نابع من إيمانها الرّاسخ بأنّ من خلال الحبّ والعشق يتخلّص العالم من آثامه وحروبه،ويتطهر ويشيع العدل والحق والجمال،فكان لزاماً عليها أن تحفر بلغة شعريّة من أجل أن تأخذ الإيحاءات مسارها عبر الارتقاء بالنّثر إلى مستوى رفيع،حتى يشعر المتلقّي لقصصها عن الحبّ والعشق أنّها تجاربها الخاصّة أو التي تتبنّاها بمخيلة استثنائيّة وبانزياحات جماليّة،فتدخل وتتسلّل إلى القارئ دون ممانعة رغم التّضاد في المعاني الذي تبدّده مسحة اللّغة الشّعريّة العالية وهي حريصة على تحويل العمل القصصيّ إلى عمل شعريّ،وهذا ما دأب عليه المتصوّفة في الارتقاء بنصوصهم النّثريّة،أو كما أكّده الرّوائيّ الخالد “غابرييل غارسيا ماركيز حين قال:” إنّ أفضل القصص هي ما كانت تعبيراً شعريّاً عن الواقع”،وهذا ما تفعله الكاتبة الشّعلان في جلّ أعمالها التي اطّلعت عليها إضافة إلى خصوبة خيالها وامتلاكها تقنيّات حداثيّة في الكتابة النّثريّة بلغة معياريّة عالية،ليكون العمل مكتمل ومعبّر عن رؤية مغايرة،وهذا نصّ يستحق الفوز بجدارة بعناية القراءة .
حميميّة ضمير المتكلم:
اختارت القاصّة سناء الشّعلان الكتابة بضمير المتكلم لما له من حميميّة عند القارئ،إلى جانب قدرته على تعرية النّفس من خلال “الرّؤية المصاحبة” لخدمة تقنيّة الارتداد السّرديّ،وما يرتبط بحياة بطلة نفس أمّارة بالعشق،وحُقّ لها ما لا يحق لغيرها في تتبّع نفسها الأمّارة بالعشق منذ اللّحظة الأولى بانثيالات وتداعيات تحمل بين طياتها أقدار مأساويّة تريد بها “التّطهرالافلاطونيّ” والتّخلّص من الانفعالات الشّاذة من خلال إشاعة العشق في النّفوس المتعبة والمهمّشة،لتتطهر القلوب الضّعيفة به:” ولذا حُقّ لي ما لا يحقّ لغيري من حضور لحظة خلقي، كانتْ لحظة تختصر كلّ حكايا العشق،وما أكثرَها من حكايا! لم أكن وليدة لحظة اجتماع رجل وامرأة بل وليدة لحظة اختيار،وامتزاج روح بأخرى،أنا صنيعة ضَعْف وانتقاء،مِنْ بين ملايين الخيارات في لحظة كنتُ أنا. ولدتُ منذورةً للعشق، ومن له أن يردّ قدره، ويبدِّل نذره؟!(5).
وتؤكّد القصّة على أنّ النّفس العاشقة هي نفس ملهمة أوّلاً وأخيراً،وتملكوعيها وإرادتها،فهي نفس مؤمنة غير منحرفة تحاول جاهدة لكبح شططها وفجورها﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴿7﴾فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴿8﴾قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴿9﴾*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴿10﴾(6).
وهي نفس غير منفلته كما يعتقد البعض،بل هي نفس محبّة للجمال والبرّ، وهذا ما عاهدت بطلة القصّة نفسها عليه.وأعلنت الحرب عليها،وهذا الوعي بأعلى تجليّاته كاشفة عن ماهيّة النّفس العاشقة المشبعة بالتّصوّف الخالص :”عاهدتُ نفسي يومها على كبتْ نفسي الأمّارة بالعشق،وعلى كبح جماحها، وبررتُ بعهدي المقدّس في عرف طهارة الأطفال لأيام أسطوريّة فلكيّة كريهة ثقيلة الخطى،فأصعب ماعلى النّفس أن تعلن حرباً على ذاتها،ونجحتُ في حربي على الرّغم من كثرة القتلى ومواجع الإعدامات والنّفي والاضطهاد في وجداني. وأعلنتُ التّوبة على إثمي الأوّل في الأرض،ولكنّني من جديد اشتهيتُ الخطيئة والمعصية واللّعنة، ووقعتُ في حبّ كلّ شيء جميل،وما أكثر الأشياء الجميلة في عينين هما نافذتان على روح تضجّ بالتّفاصيل والألوان والرّوائح واللّمسات والحاجات والأمنيات المؤجّلة والأفراح المسروقة من جنّة الخلد حيث كان مسكنها الأوّل في غامض العدم.(7)
إنّ الإنسان يبني علاقته بالمقدّس وما حوله من كون متصوّف هو الآخر من خلال العشق الذي لا مذهب له،ولم يكُ في يوم ما حكراً على جنس أو أرومة أو جغرافيّة،وبجلاء يقول جلال الدّين الرّوميّ:” دين العشق لا مذهب له،لتؤمن أو لا تؤمن”،هكذا هو العشق يجعلك تحبّ كلّ ما حولك على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم وألوانهم وأعراقهم،إنّه دين ممنوع عند الذين لا يعرفونه،ولم يجرّبوه،أو عند النّفوس الكافرة بالعشق:”في كلّ ليلة احترفت تعاطي الممنوع المهرب من الرّائق الخالص من المشاعر لعشاقي الذين لا يحصيهم عدداً إلاّ الرب في عليائه، أحببتُ كلّ مَنْ قالوا لا، و كلّ مَنْ قالوا نعم تومئ إلى لا، أحببتُ علياً ولمبا وجيفارا وماو وصلاح الدّين وشجرة الدّر والحلاج وجميلة بوحيرد ومصطفى كامل وعلي الّزيبق ومسرور السّياف ومعروف الإسكافيّ وجعفر الطّيار وابن عربي وديك الجن الحمصي وفارس عودة وجان دارك وهانبيال وإليسار والمتنبي وأبا العتاهية وهوميروس والظاهر بيبرس وفراس العجلوني والشّريف الرضي و نزار قباني وعمر أبو ريشة وفيكتور هيجو و كلّ الثائرين المبتغين الشّمس”.(8)
هذه القصّة على الرّغم من قصرها إلاّ أنّها إضافة جديدة في قصص العشق، ولها حق الرّيادة كما أتى على لسان بطلة القصّة :”واعترافاً بريادتي وتمرّدي، فقد عُيّنتُ رئيسة فخريّة لحزب الحبّ، ولرابطة المشاعر الجيّاشة،ولدارة العواطف،ورئيسة تحرير لمجلة السّعداء،ومستشارة في محطّة المحظوظين الفضائيّة،فضلاً عن تأليف كتاب موسوعيّ عن العشق وطرائقه وأبوابه ومنافذه،وبات شعار مريديّ في الحياة قول الشّاعر:
ما تُبْتُ عن عشقي ولا استغفرته ما أسخفَ العشّاقَ إنْ همُ تابوا!!(9)
وتنطوي على اعترافات لعاشقة حقيقيّة” البطلة هي الكاتبة نفسها” استخدمت مهاراتها اللّغويّة بمعياريّة عالية لإبراز جماليّة في المعنى والاستدلال من خلال النّفس العاشقة التي لا تدرك بالحواس،بل تدرك بالعقل،ويستدل عليها بالأفعال والميول وإيمانها المطلق بأن العشق والحبّ هو المخلّص الوحيد للبشريّة من كلّ قبحها ومأساتها،وهي الطّريق الوحيد للجمال والعدل والحق .
وجاءت النّهاية أكثراً من مدهشة وغرائبيّةمخالفة لكلّتوقّعات القارئ ومفارقة جميلة،وهذا جوهر الأدب الرّفيع في خلق” مفارقات صافية تتّصف بهدوء وجماليّة في لمحة الفنّ الصّافي” كما يقول توماس مان”في جعل الكتابة والورق بطهر العشق والإيمان ومن دونهما لا توجد حياة أو هذا قدر لنفس القاصة الأمّارة بالعشق التي تعيش قيامة انتظارها في محراب العشق لرجال الذين يأتون من خلال الكتابة المرسومين في النّصوص،وهذا ينبئ عن حنين الأماني التي لم تتحقّق في فعل العشق باشتغالاته كلّها عند المرأة الشّرقيّة لأسباب اجتماعيّة والذّوات المقموعة بفعل أعراف الثّقافة العربيّة،فاستخدمت التورية والرّمزيّة.على الرّغم أنّنا نملك خزيناً هائلاً من قصص الحبّ والعشق تتّسم بجرأة البوح الصّريح بدءاً من ألف ليلة وليلة والأدب الأندلسيّ والأدب الصّوفيّ والأدب العربيّ في العصر الأمويّ العباسيّ أنتج أدباً أكثراً شموليّة لأدب العشق والحب في أبهى تأثيراته على النّفس ووعائها الجسد والرّغبات التي تغذي النّفوس لتسمو بالإبداع من خلال العشق وتجلياته اللامتناهيّة مثل الوجود والكينونة والإيمان.فبطلة القصّة عاشقة حقيقيّة انتزعت كلّ حكاياه وخبرت احتراقاته:”على الرّغم من كلّ قصص عشقي لم أعشق قطُّ،فأنا امرأة تملك كلّ الحكايا وعباءات الانتظار،لكنّها أبداً لا تملك حكاية لها مع حبيب غير ورقي، وهذا قدر الأنفس الأمّارة بالعشق والمولعة بكتابة الرّجال الذين لا يأتون حقيقة إلاّ على الورق، ولا شيءَ غيرَ الورقِ، فنفسي أمّارة بالكتابة أيضاً”(10)
إذن هذه هي نفس الدّكتورة سناء الشّعلان المثقلة بالعشق والكتابة النّاصعة والمستبصرة لتعطي الحياة قيمة أكثر وهجاً واتّقاداً دون العشق لا قيمة للحياة . بالعشق وحده تتلخّص النّفس من مساوئها،وتتغلّب على مواطن ضعفها وبالكتابة تتطهّرسناء الشّعلان،وتنتصر للحبّ،وهي لا تبرح ولا تتزحزح مهما طال الانتظار،وكما ختم شيخ العشاق شمس الدّين التّبريزي بالقاعدة أربعين من ” قواعد العشق الأربعون” التي ظلّت محفورة بحروف من ذهب في الشّرق والغرب عند كلّ المؤمنين بالعشق نختم هذه الإضاءة المقتضبة عن قصّة قصيرة “نفس أمّارة بالعشق”:” لا قيمة للحياة من دون عشق.لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده،روحي أم مادي،إلهي أم دنيويّ،غربيّ أم شرقي،فالانقسامات لا تؤدي إلاّ إلى مزيد من الانقسامات.ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف.إنّه كما هو نقي وبسيط.العشق ماء الحياة،والعشيق هو روح من نار ! يصبح الكون مختلفا عندما تعشق النّار الماء”.
الإحالات:
* هذه القصّة فائزة بجائزة أدب العشق للعام 2009،وقد نشرت في المجموعة القصصيّة “في العشق” الصّادرة في العام 2009 عن وكالة سفنكس/مصر،ثم نُشرت مرة ثانية ضمن مجموعة”تراتيل الماء” الصادرة في العام 2010عن مؤسّسة الوراق للنّشر والتوزيع بدعم من وزارة الثقافة الأردنية/الأردن.
1- جائزة أدب العشق لوكالة سفنكس للتّرجمة والنّشر،القاهرة،مصر،عن قصّة” نفس أمّارة بالعشق” للعام 2009
2- القرآن الكريم،سورة يوسف،آية 53.
3- سناء الشّعلان:تراتيل الماء،ط1،مؤسّسة الوراق للنّشر والتّوزيع بدعم من وزارة الثقافة الأردنيّة،الأردن،عمان،ص122.
4- نفسه:ص121.
5- نفسه:ص121.
6- القرآن الكريم:سورة الشّمس،آية 7-10
7- سناء الشّعلان:تراتيل الماء،ص122-123.
8- نفسه:ص123.
9- نفسه:ص 126.
10- نفسه:ص126.
بقلم الأديب النّاقد: عباس داخل حسن
Tampere-Finland