ثراء الاستهلال… طريق سالكة منذ الاستقلال / الولي ولد سيدي هيبه
مما لا يختلف عليه اثنان في هذه البلاد و لا تقشعر له أبدانهما و لا يتجادلان حوله وجود ظاهرة الثراء السريع للأسر و الإفراد ضمن دوائر أسرية ضيقة أحيانا و عشائرية أوسع مرات أخرى في فترة دون سواها يستغني فيها غيرهم في ذات الدوائر>>
و الأطر و بنفس السرعة المذهلة و في غياب أية أسباب وجيهة لذلك الثراء كأن الأمر لعبة حظ محكمة الأسلوب يختلط فيها القبلي المزمن مع الجهوي المتشابك و الطبقي العصي بالإثني المصاحب للمسار المتخلف من جهة، و متقنة الحبك في ظل التفاهم على قاعدة “يوم لظلمك بلا حدود أو قيود على أفعالك فلا تفوته، و يوم عليك من دون محاسبتك على ما اقترفت و أتيت من إثم النهب و جرم الفساد و قد تجاوزت” من جهة أخرى.. حقيقة قد يجادل فيها المجادلون و لكنهم لن يُسقطوا مطلقا من صلابتها قدر دانق.. حقيقة أيضا مرة بطعم العلقم اشترك في نسجها منذ الاستقلال و بوتيرة ظلت تتزايد حتى خلقت فجوة سحيقة بين الفقراء المحبطين و طبقة الأغنياء المترفين:
• رجال اعتمدوا القبلية لسانا ذربا يذللون به الصعاب و ظلامية تاريخ ما زال نابضا بعنفوان “السيبة” يقهرون بها المستحيل، كما يتخذونها مطية ذلولا يتجاوزون بها المسافات، و ظهيرا سميكا حاميا لهم من غوائل المحاسبة، • و نساء أطلقن على هواهن فأبلين جرأة و سطوا و أمعن استهتارا و ابتزازا وصولا إلى أبعد المآرب و أكثرها استحالة، • و غلمان أيفاع على غفلة و تهور أعمارهم مدللين في حمى الأكابر المصفحين ضد سهام الحياء الوطني و عفة الضمير، فأحاطوا جميعهم بكل أسباب التنكر للحق و جرأة الإتيان – في إباحية مطلقة – بكل فواحش النيل من أستار البلد و تعريته من دواعي القيام على أسس صلبة و تبوء مكانة على قدر إمكاناته المذهلة بتنوعها و في استراتيجية موقعه العالية و قلة ساكنته مع ارتفاع محمود لمؤشر نسبة الشباب الذي يفوق الستين بالمائة رغم خور العزائم و انحسار العطاء من تهميش و عدم. و قد منعت قوةُ حضور “السيبة”، فكرا و نهجا و عملا، الحديثَ عنها و أضعفت كل محاولات كبح جماحها و حسر تلونها و كسر أشواكها، و هي الحقيقة المرة الموروثة عن نظام اجتماعي تراتبي و تركيبة طبقية فظة ثقيلةً لم تشهد كبير تحول منذ الاستقلال إلا لتأخذ أشكالا أكثر إجحافا و أقل ملاءمة للدولة الحديثة التي كان من المفروض أن تنبني على أساس قوة القانون و ما يوفره من عدل بالغ و من حكم بمبادئ الديمقراطية و سلوك المواطنة. و لأن التاريخ لا يبقى على حاله، و أن التغيير في الأحوال إلى أحسن هو سمة الأمم و بناء الكيانات القوية هو التوجه العام لها، فإن هذه البلاد قد شهدت هي كذلك على مدى العقود الماضية نصيبا لا يستهان به التحولات التي و إن لم تكن مرضية، على الأعم في حال تحريك الواقع، فإنها حققت طفرة في الوعي الطافح بضرورة ذلك التحول ما أوجد و فرض لغة جديدة ثائرة على “استقواء” ميراث الماضي، بصلفه لتجميد حركة الحاضر و كبحه عن المستقبل، وضع علامات جديدة على سكة إضعاف ذلك “الاستقواء” الخارج عن سياق هذا الزمان، و استيعاب أكثر لمعنى وفهم الدولة والديمقراطية و الإيمان القاطع بضرورة قيام سياسة المساواة في الحقوق والواجبات على كل مواطن و كل شبر في الوطن. و ليس ما يجري من الثراء الفوري لـ”ناس الموجهة” في دائرة امتداد مشهود لما كان و ما زال جاريا – و كأنه أمر طبيعي – مع كل تحول و تعاقب و تزاحم الأنظمة السياسية التي عرفتها البلاد منذ الاستقلال، إلا ترجمة و إمعانا في إبقاء ذات عقلية “حكم” المفاهيم “الماضوية” في ثوب الحاضر و “مترتباتها” في انسيابية مفروضة بقوة العقلية التي تصنعها و تديرها و بقبول حسن من أهل دائرتها المغلقة.. عقلية لم تعد مع ذلك مقبولة و لا بد من مواجهتها بالوسائل المناسبة الضرورية و مراجعة كل الأمور المشابهة و على الرأسها منها تلك المتعلقة بتسيير المال العام الذي تتحصل منه هذه القوى الظلامية على أسلحة تملكها و سطوتها في التناوب الذي يخنق البلد و وسائل حمايتها من المساءلة و المحاسبة أمام القانون. و في هذا السياق فإنه لا بد إذا من أن تتحدد، بوعي ثاقب تشترك فيه الدولة مع كل القوى الوطنية، محاورُ مفهوم المال العام وحجم ظاهرة نهبه وتبذيره وأشكال هذه الظاهرة وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية و أسبابها و كيفية تغييرها.
و معلوم أن أشكال إهدار المال العام تتراوح على كثرتها – في هذه البلاد المرهقة و المعطلة عن استفادة شعبها من الرفاه بفعل نهب أجزاء كبيرة من مداخيلها على نحو ما تقدم و الذي أساء و يفعل إلى تنميتها منذ نشأتها – ما بين: · السطو المباشر على المال العام و تبذيره عبر طريقة تدبير الشأن العام، · الاختلاسات غير المباشرة كالصفقات العمومية، · توجيه النفقات نحو أغراض من المفترض أن لا تصرف فيها تلك الأموال، · إعطاء الأولوية لأشياء لا تستحق تلك الأهمية، · الامتيازات لذوي الولاءات و غيرهم من كواسر التملق و جوارح البطانة السيئة، · استغلال الأملاك العمومية بشكل غير قانوني، · استغلال النفوذ والغش والتزوير والرشوة، · الرخص مثل رخص الصيد في أعالي البحار واستغلال المقالع، · الاعفاءات الضريبية التي تمنح لعدد من الأشخاص في عدد من القطاعات بشكل غير قانوني والتي تنعكس سلبا على مداخيل خزينة الدولة، · هناك أيضا التملص الضريبي والغش الضريبي، · إطارات الأجور العليا التي تعطى لكبار المسؤولين والعلاوات والمكافئات، · الأموال العمومية التي تهدر في إطار ما يسمى بالخوصصة.