وجع قلم:قراءة في إبداع الأديبة سناء الشّعلان

alt حيرة كبيرة انتابتني عندما أمسكتُ قلمي لأبدأ هذا المقال الذي يُفترض منه أن يروي مشوار معرفتي بالقاصّة والرّوائيّة سناء الشّعلان،فلقد تساءلت وأنا أمسك قلمي، من أين أبدأ مشوار الكتابة بالضّبط؟

   فمن المؤكّد أنّ المشوار لا يبدأ مع ظهور بدايات العلاقة والمعرفة بالنّتاج الأدبي لسناء الشّعلان،ولا من رحلة الشّغف بالقراءة والاطّلاع على كلّ ما تكتبه.

 ولا من المحاولات التي يحاولها القارئ الذي يتعرّف على نتاج جديد،يقرأ فيها صور وحكايات تحكيها القاصّة،أو روايات تنسجها خيالها لتفرغ بها ذلك الفيض اللّذيذ الذي ينسكب منها مرغماً من الأعماق إلى الأطراف مجاهدة للإفصاح عن نفسها،وإعلان وجودها أو تحاول إثبات أنّها تختلف،دون أن ندري حتى فيما تختلف.

   هناك حتماً بداية للمشوار وللانطلاق لتلك الأوجاع التي يدرك فيها المرء أنّ كيانه الجسدي لم يعد باستطاعته كبت تلك الأوجاع داخله،وأنّه صار من المحتّم عليها أن تنزع قيودها،وتحطّم أسوارها،وتفلت من حصارها،وتنطلق.

   ومن هذا المنطلق وجدتُ أنّ الانطلاقة الحقيقيّة تبدأ مع نشاط سناء الشّعلان الدّؤوب في متابعة التقاط أفكارها المبتكرة،تارة تبدعها قصّاً،وتارة أخرى تصوغها رواية.

 ترى الشّعلان أنّ الإنسان كي يكون عضواً من جماعة فلا بدّ أن يفكّر أو يسلك بطريقة معينة،وفي ضوء أهداف وقيم وصور محدّدة للعالم،أيّ أنّ التّفكير والفعل معناهما الانتماء لجامعة.هذه المفاهيم كلّها متطابقة تطابقاً حرفيّاً.ولكي يكون الإنسان إنساناً معناه أن يكون جزءاً من تيّار واحد يكون العنصر الغالب عليه هو اللّغة،وإن ظلّت اللّغة عنصراً واحداً بين عناصر كثيرة.

  وترى الشّعلان من خلال تجربتها الإبداعيّة أنّ الطّريقة التي يتتبّعها إنسان معين،سواء سواء في كلامه أم في حركاته أم في أكله وشربه وكتاباته وقوانينه وموسيقاه ونظرته الاجتماعيّة وأشكال رقصه وديانتها كلّها ذات نماذج وخصائص مشتركة.يشترك فيها مع الجماعات الإنسانيّة الأخرى.

  alt إنّ كلّ واحد من هذه الأنشطة ينتمي إلى مجموع مركّب ينبغي أن يُرك ككلّ،فهي جميعاً يضيء بعضها البعض الآخر،وأيّ إنسان يدرس إيقاعات الكلام أو التّاريخ أو العمارة أو الخصائص الجسديّة للإنسان سوف يتوصّل إلى فهم أعمق لما يميّز إنسان عن إنسان آخر من تشريع وموسيقى وأزياء.

   إبداع سناء الشّعلان يرفض وجود قوانين ثابتة لنصّها الإبداعي،كما ترفض أيضاً وجود مستويات للوعي والسّلوك يمكن تطبيقها على شخصياتها القصصيّة والرّوائيّة.إنّها ترفض أن تفرض على نصّها نموذجاً موحداً للإبداع،فقد كانت منهجيّة الشّعلان الإبداعيّة تقوم على أنّ كلّ عصر تاريخيّ وكلّ حضارة لديها سمتها الخاصّة وقيمتها الخاصّة،وأنّ المجتمعات الإنسانيّة ليست شكلاً واحداً بل لها أشكال متعدّدة.وأنّ كل مجتمع سواء أكان عربيّاً أو هنديّاً أو صينيّاً،قد نما وتطوّر بطريقة متميّزة واستجابة للظّروف المحيطة به في أزمنة وأمكنة خاصّة.

  ولذلك يجب أن ننظر إلى المجتمع في ذاته،ومن أجل ذاته،دون فرض أيّ نموذج مسبق عليه،فمهمّة المبدع هي الفهم المتعاطف مع هذه الثّقافات،والتّحقّق من أنّ نموذج الحياة والفكر والفنّ الذي يميّز أيّ مجتمع أو عصر تاريخي ما هو إلاّ نموذج متفرّد وغير قابل للتّكرار،وليس موجوداً في أيّ مجتمع آخر،إذ إنّ لكلّ إسهامه الفردي.

   هكذا يجب أن نفهم الإنجازات البشريّة في علاقتها بمحيطها الثّقافي الذي تنتمي إليه بشكل أساسي؛لأنّ تفسير العصور إبداعيّاً تفسيراً يعلو على شروط الزّمان والمكان والظّروف،ووضع حدود نهائيّة محدّدة لكلّ نشاط بشريّ مهما كان نوعه،هو ما عرّض الإبداع لسوء الفهم.

  للأسباب السّابقة نقرأ إبداعات سناء الشّعلان على أنّها دعوة للحفاظ على الثّقافات والحضارات البدائيّة التي تقدّم نافذة متفرّدة عن العالم،والشّعوب في إبداعها هم مؤلفو الأغاني والملاحم والأساطير والقوانين والأعراف والتّقاليد واللذغات.

  ولكن السّؤال الآن:كيف يمكن فهم تعبيرات الحياة في تجربة سناء الشّعلان الإبداعيّة؟إنّ أيّ قارئ لرواية” السّقوط في الشّمس” الصّادرة عن أمانة عمان عام 2004،وهي الرّواية الأولى لها،يكتشف إحساسها بالمكان الذي لا يختلف عن إحساسها بالزّمان،ولم تتناقض قوانين المكان عن القوانين المتحكّمة في الزّمان في روايتها ممّا يؤّكد التّماثل النّسقي بينهما،أيّ الوحدة الزّمكانية للفضاء القمعي أو الرّوائي،وذلك بمقتضي الرّؤية المؤسّسة لهما من جهة ثانية،وبمقتضى المضمون القصصي للمرحلة من جهة ثالثة.

   والعلاقات بين الأزمنة هي ذاتها أزمنة وأمكنة،بمعنى أنّ العلاقات بين أجزاء المكان هي أيضاً أمكنة،وينطبق على الزّمان،”فإذا كانت أجزاء المكان نقاطاً فإنّها تترابط بواسطة النّقاط المتداخلة،وإذا كانت أجزاء الزّمان آنات فإنّها تترابط أيضاً بواسطة الأنّات المتداخلة،ويمكن أبعد من ذلك أن تترابط الأزمنة والامكنة بواسطة النّقاط الآنية المتداخلة بينهما بحيث تحصل في النّهاية على الزّمان المكاني”(1).

  واستطاعت الشّعلان في روايتها “السّقوط في الشّمس” تقديم المكان من خلال وجهة شخصيّة تعيش فيه أو تخترقه،والمنظور الذي تتخذه الشّخصيّة هو الذي يحدّد أبعاد الفضاء الرّوائي،ويرسم طوبوغرافيّة،ويتيح تحقيق دلالاته الخاصّة،فالتّجربة المكانيّة هي التي تحدّد المكان،وهنا يوجد نوعان للتّجربة المكانيّة.

الأوّل:

  أن يوجد الإنسان ضمن المكان،أي انّه جزء من الأبعاد المكانيّة ذاتها،أو أنّه بالأحرى يقف عليها وعندها،ولذلك فهو يعاني إحساساً داخليّاً ومركزيّاً،وبذا يصعب عليه أن يحدّد الأبعاد الكاملة للمكان.

الثاني:

  أن يحقّق المرء على حافة المكان أو إلى جانب منه،وفي هذه الحالة يحصل الإنسان على القابليّة،أو أمكانيّة استطلاعه للمكان والتّعرف على أبعاده جميعها.

أمّا الحالة الثّالثة التي يضيفها(كوت بادبت)،فهي حالة سلبيّة،وهي التي يمكن تعريفها بمصطلح اللامكان.وفي النّوع الأوّل لا يمكن للشّخوص الرّوائيّة أن يحدّدوا المكان؛لأنّهم في هذه الحالة هم جزء منه،يناله ما ينالهم،ويؤثّر عليهم ما يوثّر عليه،وغالباً ما بفقد هؤلاء استقلالهم الذّاتيّ تحت ما يمكن تسميته بـ(جبريّة المكان)(2).

  أمّا في النّوع الثّاني فيكون شخوص الرّواية في حالة خارج المكان،وليسوا بُعداً من أبعاده،وبذا تتاح لهم ملاحظة المكان والوقوف على أهم خصا ئصه وأبعاده(3).

 وحين توظّف الشّعلان الخطاب الرّوائيّ الخطاب الرّوائيّ وجهة النّظر المتقطّعة،فإنّها تعرض المكان مجزوءاً أو تعرضه موحداً واشتماليّاً إذ كانت الرّؤية متسعة،وفي كلتا الحالتين فإنّ المنظور السّرديّ للمكان هو المتحكّم في الفضاء وإعطائه طابعه المميّز،وتلعب وجهات النّظر دوراً حاسماً في إعداد الخطاب،وتشكيل الفضاء الرّوائيّ،والرّبط بين أجزائه من خلال إقامة صلات بين المواد والأجزاء والمظاهر التي يتضمنّها الشّكل الحكائيّ،بحيث تصبح كلّها تعبيراً عن كيفيّة تنظيم الفضاء الرّوائيّ.

  وقد استطاعت سناء الشّعلان تحديد كينونة الفضاء في مجاميعها القصصيّة:” قافلة العطش”و”الكابوس” و”الهروب إلى آخر الدّنيا”و”مذكرات رضيعة” و”رسالة إل الإله” متجاوزة ما قد يتعلّق بالعنوان أو الغلاف أو المداخل والافتتاحيّات وخواتم القصص فضلاً عن التّأكيد على ضرورة وأهميّة الفضاء المتخيّل أو الفضاء المضمون دون إغفال التّرابطات الطوبوغرافيّة للحدث المتحمّل والمحكي،ذلك أنّ الرّاصد للموضوع من وجهة نظر تحليل مادّة السّرد القصصيّ (الحكائيّ) يمكن أن نلاحظ منذ البداية أنّ الطّرافة تكمن في الموضوع ذاته لاسيما ما يتعلّق بمنطق الأحداث وبوظائف الشّخوص،ومن ثمّ ما يتعلّق بالزّمنيّة ذاتها.

   لذا فإنّ تحليل الفضاء القصصيّ عند الشّعلان هو الذي يتيح الفرصة لنا للقبض على الدلالة الشّاملة للعمل في كلّيته.والقراءة الكفيلة بالكشف عن دلالات الفضاء القصصيّ ستبنى على تقاطبات مكانيّة كثيرة تأتي على شكل ثنائيّات ضديّة تجع بين عناصر وقوى متعارضة لتعبّر عن علاقات القاصّة أو شخصياتها بإمكان الحدث.

  ومفهوم التّقاطبات هذا يمتدّ إلى أرسطو الذي وضع جذوره في كتاب الفيزياء،إذ برزت التّقاطبات التي يحدّدها جسم الإنسان الواقف(يمين/أمام/خلف/أعلى/أسفل)،وهو يتحدّث عن الأبعاد الكلاسيكيّة الثّلاثة(الطّول والعرض والارتفاع).

 ونحن نجدها في كتاب غاستون باشلار”شعرّية الفضاء”،حينما درس جدليّة الدّاخل والخارج المتضمّنة في المكان،وعارض بين القبو والعليّة وبين البيت واللا بيت(4)،ونجدها عند غيره من الباحثين.

 واستفادت الشّعلان من هذه المفاهيم العامّة التي شكّلت النّسق المرجعيّ للفضاء في السّرد لإقامة البناء الإبداعيّ الذي تستند إليه التّقاطبات المكانيّة في اشتغالها داخل النّص،فقد ميّزت بين التّقاطبات التي تعود إلى مفهوم الأبعاد الفيزيائيّة،وأبرز التّقاطبات المشتقة من مفاهيم المسافة أو الاتّساع أو الحجم،أو من مفهوم الشّكل أو الحركة أو الاتّصال أو الاستمرار أو العدد وغيرها من المفاهيم التي تساعد على فهم كيفيّة تنظيم واشتغال المادّة المكانيّة في النّوع الحكائيّ.

 

السّؤال/الأني:

   والسّؤال ما تفوح منه رائحة القرون السّالفة مشيراً إلى خصوصيّة الجذور التّاريخيّة العريقة التي تنتمي إليها سناء الشّعلان،ويوصف المكان بأنّه سؤال تاريخيّ،إذ كان “المكان الذي يستحضر لارتباطه بعهد مضى أو لكونه علاقة في سياق الزّمن” (5).

  ولمّا كنّا قد أشرنا إلى انسجام هذه الأمكنة ومحاكاتها لوظائفها المرجعيّة،فإنّ هذه الأمكنة تصبح بارتباطاتها مع أزمنة ما تاريخاً للتّحوّلات الاجتماعيّة التي تطرأ على المجتمع ضمن سياق فترة زمنيّة محدّدة،والارتباط بالمكان ما “هو الارتباط بقضيّة هذا المكان،وليست مجرّد ارتباط عاطفيّ أو جغرافيّ”(6).

  على الرّغم من أنّ حسّ المكان،أيّ المكان الفعلي حسّ أصيل وعميق في الوجدان البشريّ،ولا سيما إذا كان وطن الألفة والانتماء الذي يمثّل حالة الارتباط البدنيّ المرتبط برحم الأرض- الأمّ،ويرتبط بهناءة الطّفولة وخبايا الصّبا،ويزداد هذا الحسّ شحذاً إذا ما تعرّض المكان للفقدان أو الضّياع،وأكثر ما يشحذ هذا الحسّ هو الكتابة عن الإنسان الذي يحيا في المنفى.

 المنفى هنا ليس المقصود ضياع الوطن،بل هو أوسع من ذلك،فقد يعيش المبدع في وطنه،إلاّ أنّ إحساس المنفى هو الذي يسيطر عليه لأسباب متعدّدة وعديدة.ولعلّ من أهمّ أسباب سيطرة شعور المنفى لدى المبدع،هو اعتبار المنفى الإطار المحدّد لخصوصيّة اللّحظة الدّامية المعالجة،فالحدث لا يكون في اللامنفى،وليس ثمّة فرق بين منفى مغلق وآخر منفتح في النّص القصصيّ والرّوائيّ،الفرق بينهما من حيث كونهما منفيين مسميين في النّص،أّما عند الكتاب/الكاتبة فقد يكون للمنفى المغلق قيمة فنيّة وجماليّة على الرّغم من محدوديّة مساحته،وقد يكون أكثر ضيقاً ممّا هو عليه عند كاتب/كاتبة خفيف المخيّلة.

  فسعة المنفى أو ضيقه،انفتاحه وانغلاقه رهينان إذن بسمة الحساسيّة الرّوائيّة والقصصيّة،انفتاحهما  وانغلاقهما.وهذا ما يفسّر وعي سناء الشّعلان في نصوصها القصصيّة والرّوائيّة لفهم المراحل ضمن الزّمن الواحد،ومحاولة وضعها دراماتيكّياً متجاوزة أو متقابلة،ومحاولتها هذه المتّسعة بالإصرار الكبير على رؤية أيّ شيء على أنّه متعايش،وأن يفهم كلّ شيء،ويكشف عنه على سبيل التّجاور والتّزامن،وكأنّه يجرب في مكان المنفى لا في الزّمان،هذه المحاولة تقودها إلى أن يسبغ الطّابع الدّراميّ في مكان المنفى حتى على المتناقضات الدّاخليّة وعلى المراحل لتطوّر إنسان واحد.

  ويمكن تحديد بعضٍ من ملامح مكان المنفى الدّراميّ أو المسرحيّ كمحدودتيه وعدم ملائمته للتّواصل والامتداد،ففي المساحة المغلقة وحدها يمكن للصّراع أن ينشأ وأن ينمو وينتهي في حتميّة،ففي القصّة الدّراميّة عامّة يكون معنى مكان المنفى باهتاً وتحكميّاً.

  وكما في المسرح وعلى قواعد أرسطو فإنّ وحدة المكان تبرز ناصعة في رواية “السّقوط في الشّمس” للشّعلان،إذ توجد شخصيّات هذه الرّواية في حيّز محدّد هو منفى الرّوح الذي بدا للقارئ على أنّه مكان محدّد مقصود على الرّغم من أنّه لا وجود لرواية تجري أحداثها جميعها في مكان منفرد واحد،وإذا ما بدا أنّ الرّواية تجري في مكان واحد فلتعطينا أوهاماً تنقلنا إلى أماكن أخرى.وهذا ما ذهبت إليه الرّوائيّة سناء الشّعلان في روايتها،إن تخلق انطباعاً لدى القارئ بأنّ هناك أوهاماً يمكن من خلالها الشّعور بأنّ هذه الأوهام قد تصبح في يوم من الأيام مكاناً للإنسان.إنّ هذا التّوظيف لمفردة الأوهام،هو قدرة المبدع على جعل هذه المفردة على أن تكون له القدرة على خلق منفى يولّد شعور لدى القارئ على أنّه أمام سؤال كبير،وهو:هل نحيا في الأوهام؟

  إنّ أيّ بحث عن إجابة يقودنا إلى القول إلى أنّ الإجابة تتحدّد في أشكال مختلفة ” مكان استكشاف يختبر إمكانياته وحدوده،فهو يستكشف أبعاده،ويستخدم الاتّجاه الأفقيّ كما يستخدم العمق،إن وُجد،وأحياناً ينقسم المكان بحيث يفقد مركزه واستقراره وحدوده وعلاماته المطمئنة،بل معناه” (7)

   فهو كان معقّد،فبقدر اشتماله على مكان محسوس تتحرّك فيه الشّخصيّات،فإنّه مكان يضمّ بين جوانحه العلاقات الحقيقيّة كلّها بين هذه الشّخصيّات.إنّ البناء الفنّي لرواية “السّقوط في الشّمس” يطمح إلى تركيز صورة اجماليّة من خلال المكان المفترض التي توحّد أقدار الشّخصيّات،بحيث تضبّب تفاصيلها،لكن تبقى قابلة للانبعاث في أشكال مختلفة ضمن إطار الصّورة التي ترتفع إلى مستوى البناء الرّمزيّ.

 رؤية الفطرة:

    ما يسعى إليه هذا العنوان هو محاولة طرح بعض الأسئلة،منها:لماذا يعبّر عن مضمون واحد في أشكال متعدّدة؟لماذا يعبّر عن الصّورة البصريّة لعناوين الشّعلان لنصوصها القصصيّة والرّوائيّة؟ما مدى تعبير كلّ صورة متخيّلة للعناوين من هذه الصّور المتخيّلة عن الموضوعيّة الواحدة؟ما هي خصوصيّة ذلك التّعبير؟ما الوظائف التي يقوم بها؟ ما الحاجات التي يشبعها؟ ماذا يميّز بعضهما عن بعض؟

  وإذا كانت هناك ميّزات خاصّة،فهل هي نتيجة لأحوال الكاتبة المتقلّبة المضطربة في أزمنة وأمكنة متحوّلة متقلّبة؟ إنّ محاولة الإجابة عن بعض هذه الأسئلة تتطلّب البحث عن دواعي تنوّع الأشكال الثّقافيّة بصفة عامّة،سواء أكانت الثّقافة “عالمة” أم “شعبيّة”،وهو بحث يدعو إلى استكشاف أوليّات وآليّات الذّهن البشريّ بصفة عامّة وعلائقه بمحيطه،وكيفيّات إدراكه وفهمه وتأويله لذلك المحيط في الذّهن أيضاً. بيد أنّ ما سنركّز عليه هو شكل واحد من أشكال الثّقافة البصريّة،ونعني به العناوين للمجاميع القصصيّة وعنوان الرّواية.

   تنقل لنا سناء الشّعلان تجربتها مع العنوان،ومن العناوين المرتبطة بتكوينها الرّوحي والثّقافيّ.ولعلّ اختيارها عنوان لروايتها الأولى “السّقوط في الشّمس” هو إدراكها مدى إشكاليّة الزّمن في الأدب الرّوائيّ المرتبط بالجوهر على أكثر من مستوى.

 وتُعدّ مشكلة الزّمان التي أشارت إليها الشّعلان بالشّمس،فالفكرة مميّزة لهذا الجيل،تطبعه بطابعها،وتخلق الجوّ العامّ الذي يتنفّس فيه،فأهمّ الحركات العلميّة والفلسفية والأدبيّة والفنيّة التي نشأت في عصرنا تتّخذ من هذه الفكرة محوراً لها،الزّمان هو موضوع نظريّات أينشتاين،وهومدار بحوث برغسون وهيدجز،إنّه حاضر في أدب بروست وجويس ومان وفرجينيا وولف وفولكنر وسارتر،إنّه كامن في شعر فاليري وريلكه وأليوت وريغردي،كما أنّه مرتكز على جماليّة فندسكي،إنّه القاسم المشترك الذي يجمع بين ممثّلي حضارة هذا القرن.مؤكّداً أن مبدعي عصر ما مهما تباينت أراؤهم واتّجاهاتهم،وتنوّعت مشاربهم ومذاهبهم يظلّون أبناء جيل واحد.

  أمّا اختيار مفردة عنوان” مذكّرات رضيعة” لإحدى مجموعاتها القصصيّة،فيؤكّد أنّ الزّمن لا يزال يثير الاهتمام،وفي مجالات معرفيّة متعدّدة ابتدأ التّفكير فيه من زاوية فلسفيّة،فكانت منظورات الفلاسفة تنطلق من اليومي لتطال الكونيّ،فمقولة الزّمن “متعدّدة المجالات،ويعطيها كلّ مجال دلالة خاصّة،ويتناولها بأدواته التي يصوغها في حقله الفكريّ والنّظريّ،وقد يستعير مجال معرفيّ ما بعض فرضيّات أو نتائج مجال آخر،فيوظّفها مانحاً إيّاها خصوصيّة تساير نظامه الفكريّ،وانطلاقاً من هذا يراكم من ثم رؤيته المستقلّة للزّمن وتصوّره المتميّز عنه.

  وقد يذهب إلى مستوى القطيعة مع الأصول المعرفيّة الأولى المنطلق منها،كما قد يظلّ من جهته رهين تلك الأصول يستمدّ منها تصوّره،ويعود إليها بين الفينة والأخرى ليحاكم فرضياته أو ليبحث لها عن سند”(8)

 فكان توظيف مفردة “المذكّرات” في العنوان للمجموعة القصصيّة،هي قراءة بصريّة لسيرة الزّمن،أمّا مفردة الرّضيع،فهي محاولة لخلق جدليّة ما بين الزّمن والطّفولة،وكأنّ الشّعلان تقرأ سيرة الزّمن منذ بداية تشكّله للإنسان،أيّ منذ تعرّفه عليه في البدايات،بدايات الطّفولة.

   أمّا عن اختيارها لعنوان لافت آخر لمجموعة قصصيّة “أرض الحكايا”،فيؤكّد مرّة أخرى على أنّ الزّمن هو زمن الحركة،فيما يتعلّق بالقبل و(البعد)  والزّمن في نظر الشّعلان وثيق الصّلة بالحركة،لذا جاءت مفردة “أرض” لتؤكّد هذا القول على اعتبار أنّ الزّمن لا يمكن أن يوجد دون تخيير،والحركة تأخذ أشكالاً ثلاثة:نوعيّة وكميّة وموضعيّة.لقد حاول أرسطو أن يعرف الزّمان” على نحو أكثر اتّساعاً بطابع الفيزياء،وأن يربط بينه وبين الحركة الفيزيائيّة،فلم يعد الزمان يعرف ميتافيزيقيّاً على أنّه صورة للأبديّة أو حركة النّفس،بل أصبح يعرف-كما يمكننا القول-فيزيائيّاً،أيّ كنظام عددي يبيّن اتّجاه الحركة،فهو يبيّن ما يتقدّم وما يتأخّر”(9).

  أمّا عن اختيار الشّعلان لعنوان” الهروب إلى آخر الدّنيا” لمجموعة قصصيّة من مجاميعها القصصيّة،يؤكّد مرّة أخرى على أنّ الزّمن عندها يُفهم على نحو ما إنّه يكشف عن أنّه نسبي في صفته،ولكنّه مستقلّ إلى حدّ عن الأحداث في الزّمن.إنّه يتضمّن ربطاً مستقلاً لمجموعتين من اللّحظات (قبل-بعد)،و (الماضي والحاضر والمستقبل)،إنه يتضمّن نوعاً من التّوفيق بين التّخير والثّبات.

  ثمّة تفسيرات إذن،ويظلّ هناك تفسير تقليديّ للزّمان يرى أنّه خطّ متواصل تتقاسمه ثلاثة أقسام،الماضي والحاضر والمستقبل،وهذا التخيير أليّ يجعل الزّمن شيئاً ماديّاً آليّاً.هو الزّمن المعدود بالدّقائق والسّاعات وشؤون الحياة العمليّة،وهذا هو الزّمن الذي يجرف الأشياء ويطويها.

  ويظلّ الصّراع الزّمنيّ واضحاً في العناوين التي اختارتها المبدعة سناء الشّعلان لنصوصها القصصيّة والرّوائيّة.

  نخلص إلى أنّ تجربة سناء الشّعلان القصصيّة والرّوائيّة تجعلنا نرى الإنسان في نصوصها الإبداعيّة حائراً،والذي تاه في بنيّات الطّريق المكبّل بأغلال الماضي والآتي المطالب بحريته وعتقه ليهاجر إلى ما يريد أن يهاجر إليه:الهجرة إلى الحريّة وإنسانيته التي تدفعه إلى البحث عن المطلق حيث لا تدركه الأبصار،وهو يدرك الأبصار،وهو الخبير الحكيم.

     لكن تجربة الشّعلان لها أصداء روحانيّة لا تنتمي إلى اتّجاه فكريّ معيّن،لكن النّواة التي تولّدت من تجربتها الإبداعيّة هي سيرة الإنسان في أشكاله المختلفة والمتنوّعة،فقد استقت القاصّة والرّوائيّة الشّعلان من محصولها الثّقافيّ المتنوّع ومن تجاربها الحياتيّة المختلفة لتصف واقعاً معيشاً،ولا تقترح لها الواقع حلولاً بقدر ما ترسل من رسائل لمن يهمّه الأمر.لكن نصّ الشّعلان يتجاوز الخاصّة ليكون بياناً إبداعيّاً يعبّر عن قضايا العصر وبعض مشاكله من وجهة نظر خاصّة.

 

 

الإحالات:

1-    تيارات فلسفيّة معاصرة:علي عبد المعطي،ط1،ص329.

2-    نظريّة الأدب:أوستن ورينه ويليك،ترجمة محي الدين صبحي،ص288.

3-    الفضاء الرّوائيّ في الرّواية المغربيّة:منيب محمد البوريمي،مخطوطة،ص49-50.

4-ترجمه من الإنجليزيّة إلى العربيّة غالب هلسا بعنوان “جماليّات المكان”،وقد ولّدت هذه التّرجمة الكثير من الاقتباسات.

5-    حركة الإبداع:خالدة سعيد،ص30.

6-    الرّواية والواقع:محمد كامل الخطيب،ص40.

7-    مفهوم المكان في المسرح المعاصر:سامية أسعد،مجلّة عالم الفكر،مجلّد 15،عدد مارس عام 1985.

8-    تحليل الخطاب الرّوائيّ:سعيد يقطين/ص61.

 

بقلم النّاقد الأردنيّ:سليم النّجار

9-    الزّمان الوجوديّ:د.عبد الرّحمن البدوي،ص100.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى