موريتانيا والمغرب .. علاقات تليدة بين شعبين شقيقين
محمد الأمين ولد الكتاب
لقد قامت مؤخرا بعض الأوساط الصحفية بترويج شائعات مفادها أن العلاقات الموريتانية المغربية تعاني في الوقت الراهن من برودة ملحوظة من شأنها أن تؤثر على مختلف أوجه التعاون بين البلدين.
و الذي ينبغي قوله و التشديد عليه في هذا المضمار،بصرف النظر عن صحة هذه الشائعات أو عدم صحتها، هو أن العلاقات السياسية بين الدول قد تتأرجح بين البرودة و الفتور و الدفء و الحرارة حسب الظروف و الملابسات وتبعا لأمزجة الساسة و تقديراتهم الخاصة. وهذا كان شأن العلاقات السياسية الموريتانية المغربية، حيث أنها قد عرفت في ما مضى تقلبات و تشنجات وصلت في أشدها إلى قطع العلاقات الدبلوماسية و حصول جفاء شديد بين قادة البلدين، لكن ذلك لم يكن له أدنى تأثير على التواصل و الترابط الوثيق بين الشعبين الموريتاني و المغربي، وذلك لسبب بسيط وهو أن العلاقات بين الشعبين علاقات وطيدة و متعددة الجوانب و التجليات، ولها أبعاد تاريخية و جغرافية و اجتماعية و ثقافية و اقتصادية ، تجعلها في مأمن من تأثير الخلافات الظرفية و الأزمات العابرة و تقلبات أمزجة بعض صناع القرار.
فعلى الصعيد التاريخي ، قد أنجب البلدان و احتضنا الحركة المرابطية و استأنسا بتعاليم عبد الله ابن ياسين و أسهما في جهاد و انجازات أبي بكر ابن عمر و يوسف ابن تاشفين. كما أن زواج المولى إسماعيل ،لدى قدومه إلى بلاد شنقيط في القرن الثامن عشر، من الأميرة الموريتانية خناثة بنت بكار،قد قوى أواصر التو اشج و الترابط بين الشعبين الموريتاني و المغربي، اعتبارا من ذلك التاريخ، و ذلك من خلال التواصل الدءوب بين الأمير محمد العالم بن المولى إسماعيل و العديد من الشعراء و الأدباء الشناقطة و بوجه خاص مع الشاعر و الأديب عبد الله بن رازكة الذي ربطته به صداقة حميمة كان يذكيها حبهما المشترك للأدب و الشعر، حيث عملا معا لتنميتهما و تطويرهما بالمغرب ما جعل الأستاذ عبد الله كنون يقول في كتابه “النبوغ المغربي” بأن الأمير محمد العالم و الأديب الشاعر عبد الله ولد رازكة ، يعتبران من المؤسسين للنهضة الأدبية بالمغرب.
و على الصعيد الجغرافي، هناك تصاقب و تماس بين البلدين نجم عنه تمازج و تداخل و ترابط بين السكان، أدى إلى نشوء قبائل عديدة تتوطن البلدين وتتنقل بينهما دون مراعاة للحدود الاصطناعية التي اختطها الاستعمار قسرا و اعتباطا خدمة لمصالحه الخاصة.
و على الصعيد الثقافي و العلمي، فقد كان للبلدين تأثير ملموس على بعضهما امتد أحقابا طويلة من الزمن، و ذلك من خلال تواصل العلماء في البلدين و اهتمام الدارسين في كل منهما بمؤلفاتهم في مختلف المعارف. ففي مجالات الفقه و اللغة و الفلك و الحساب، كان طلبة المحاظر الشنقيطية منذ القدم، يتدارسون كتب العلماء المغاربة و تحديدا كتاب ” المرشد المعين” لابن عاشر في الفقه و كتاب ” الأجرومية ” لمحمد ابن أجروم في اللغة و النحو و كتاب”علم الفلك” لمحمد بن سعيد و نصوص منظومة في علم الحساب لابن غازي. كما كان مؤلف “بوطليحية” للعالم الشنقيطي النابغة الغلاوي و الذي تمت طباعته سنة 1862 على المطبعة الملكية بفاس، كان مقررا على طلاب جامعة القرويين بفاس إلى عهد قريب.
وقد بدأ توافد العلماء الشناقطة على المغرب بهدف التبحر و التدريس،إبتداءا من القرن السادس عشر في عهد السعديين، حيث جلس العلامة أحمد بابا التونبكتي وبعض أقاربه للتدريس بجامع الشرفاء بمراكش لبضع سنين ، ما جعل هذه المدينة قبلة الدارسين القادمين من كل أرجاء المنطقة. كما قد حل بالمغرب في فترات لاحقة عدد وافر من العلماء الموريتانيين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر محمد يحيى الولاتي المشهور و العلامة الطالب أحمد ولد طوير الجنة الذي نزل ضيفا مكرما معززا لدى الملك مولاي عبد الرحمن ابن هشام ،حيث قامت صداقة متينة بين ابنه الأمير مولاي محمد و ابن الطالب احمد ولد طوير الجنة محمد الصابر، الذي جاء برفقة والده إلى مراكش. ولقد بنا المولى عبد الرحمن زاوية للطالب احمد ولد طير الجنة بمكان يدعى سبعة رجال. بقي بها ابنه بعد أن غادر هو إلى موريتانيا.
و لم يتوقف هذا التواصل العلمي و التلاقح الفكري بين البلدين الشقيقين إلى يومنا هذا حيث قد التحق و ما زال يلتحق بالمدارس و المعاهد و الجامعات المغربية و يتخرج فيها ألاف الطلاب الموريتانيين في مختلف التخصصات، قبل أن يعودوا إلى موريتانيا ليشكلوا جزءا هاما من الموارد البشرية التي تتوفر عليها البلاد ،و تعتمد عليها في نهضتها و عصرنتها و الارتقاء بمستواها في كل المجالات.
و على الصعيد الاجتماعي فإن ثمة تمازجا و تداخلا و علاقات رحم بين الموريتانيين و سكان الجنوب المغربي بوجه خاص نتيجة للتساكن و التعايش و التزاوج طيلة أحقاب متوالية من الزمن. و بالنتيجة فإن الموريتاني لا يشعر أبدا بالغربة لا في المناطق الجنوبية و لا الشرقية و لا الشمالية من المغرب.
وهذا هو السبب الرئيسي لنزوع الموريتانيين التلقائي إلى التوجه صوب المغرب للدراسة والأستطباب و الراحة والسياحة و التجارة و للاستقرار حتى.
و على الصعيد الاقتصادي ، فإن التبادلات التجارية بين البلدين التي كانت قد بدأت بتسيير القوافل بين منطقة واد نون و الشمال الموريتاني عبر ما كان يعرف ب”طريق اللمتوني”، ما زالت متواصلة إلى اليوم عن طريق البر و البحر و الجو: و لعل أبرز مظاهر ذلك هي أساطيل الشاحنات المحملة بمختلف أنواع المؤن و شتى أصناف السلع ، القادمة من المغرب إلى موريتانيا. علما أن الاقتصاديين يقولون إن أهم مؤشرات الاندماج بين شعبين متجاورين هو وجود حركة الشاحنات بينهما.
و ليس هذا هو المؤشر الوحيد على قيام الظروف المواتية لرفع وتيرة الاندماج الاقتصادي بين موريتانيا و المغرب بل ثمة مؤشر أخر لا تخطئه العين ألا و هو النمو المطرد للسياحة و الاتجار مع ما سوف يستتبعه ذلك من تأمين التسهيلات الضرورية لانسياب البضائع والأشخاص و الرساميل و الاستثمار و الإتجار و الاستقرار و التملك.
هذا الحراك الشعبي التلقائي المتزايد رغم الإبقاء المفارق على التأشيرات بين البلدين، هو في واقع الأمر تعبير صادق وواضح الدلالة عن إرادة شعبية في وجود تواصل أكبر و تبادل أشمل و اندماج أوسع بين الشعب الموريتاني و الشعب المغربي. ولا ريب أنه من الحصافة و الصوابية و القدرة على استشراف متبصر ملامح المستقبل عدم تجاهل هذا النزوع و هذا التطلع إلى المزيد من التلاقي و التقارب و التكامل بين الشعبين الشقيقين المتجاورين.
و بناء على كل ما تقدم ذكره من معطيات و اعتبارات فإنه يمكن القول بأن العلاقات التي تربط الشعبين المغربي و الموريتاني هي علاقات وطيدة ضاربة في القدم و متعددة الأبعاد. ولذلك فإن من المستبعد بل من المستحيل أن تؤثر في استمراريتها توترات عابرة أو تشنجات ظرفية لا تكاد تطفو على سطح مسرح الأحداث حتى تتلاشى و يطويها النسيان، وذلك نتيجة لمتانة و رسوخ العلاقات بين الشعبين الموريتاني و المغربي و حرسهما على تعزيزها و ديمومتها. و آية ذلك أنه عند نشوب الأزمة الحادة بين الحكومتين الموريتانية و المغربية التي أدت في بداية الثمانينيات إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، فإن ذلك لم يكن له أدنى تأثير على استمرار تدفق الطلاب الموريتانيين على الجامعات و المعاهد المغربية و تمتعهم بالمنح الدراسية و تنظيم نقلهم من و إلى موريتانيا بواسطة الطائرات المغربية بالمجان، تحت إشراف ما كان يعرف بالوكالة الموريتانية المغربية للتعاون. كما أن تلك الأزمة لم تحد من انسيابية و استمرار حركة المواطنين الموريتانيين إلى المغرب للعلاج و السياحة و التجارة و زيارة الأقارب…
وإن دل هذا كله على شيء فإنما يدل على أن ما قد يطال العلاقات السياسية الموريتانية المغربية بين الفينة و الأخرى من برودة ظرفية فإنه لا يؤرق الشعبين و لا يجد له صدى كبيرا عندهما إذ أن حرصهما على استمرارية و تعزيز هذه العلاقات التليدة التي بانياها معا هو فوق كل اعتبار و أعمق من أن تؤثر فيه توترات عابرة أو خلافات ظرفية.