مقال للراحل محمدسعيد ولد همدي من ترجمة ددود ولد عبدالله
الرمل… والبحر… والرحيل : تواطؤ السيف والقلم.. لعنة حام.. (1 من 3) لي مع هذا المقال قصة فقد وجدته سجينا في وثائق إدارة تحرير جريدة الشعب حينما عينت عليها عام 1986.. وقد كتبه الأستاذ محمد سعيد ولد همدي عام 1984 في إطار نقاشات أثارتها قصيدة للشاعر أحمد ولد عبد القادر بعنوان “السفين” تابعت بعضها رغم أني حينها كنت ضيفا على سجن “الهندسة العسكرية” ..
قرأت المقال فأعجبني ولم أجد فيه ما يمنع نشره خصوصا أنه صودر أيام الرئيس محمد خونة ولد هيدالة والحكم في تلك الفترة للرئيس معاوية ولد الطايع قدمت المقال المكتوب بالفرنسية إلى الدكتور ددود ولد عبد الله من أجل الترجمة على أمل نشره باللغتين العربية والفرنسية، لكن بعضهم أبلغ وزارة الاعلام أني أنوي نشر مقال محظور فجاءت التعليمات بالامتناع عن ذلك… احتفظت بالمقال وترجمته حتى أصدرت في التسعينات جريدة “المراقب” فنشرته فيها عام 1990على ثلاث حلقات بعد أن وضعت له عنوانا عاما وعناوين فرعية لكل حلقة..
الشيخ بكاي
إنه من السعادة النادرة أن أقضي أياما أتابع على أعمدة “الشعب” هذا النقاش الغني والرائع حول قصيدة جديدة للشاعر أحمدو ولد عبد القادر بعنوان “السفين”.
فعلى الرغم من انقطاعات التيار الكهربائي وأيام الزوابع والرمل، و حركة الزوار التي لا تنقطع، والركود الفكري المقلق المنتشر في أوساط النخبة المثقفة فإن بعض الشجعان كانت لهم الجرأة على امتشاق القلم..
وتستحق منا هذه المبارزات والمعزوفات المنفردة الاعتراف لأصحابها بقيمة الجهد والوقت الذي بذل في التأمل حول حياتنا وسبل بقائنا.
لقد كان النقاش بطبيعة الحال، عالما وأكاديميا.. وهو على أية حال يغري بمحاولة المشاركة فيه.
وأنا بالمشاركة أسعى إلى هدف أول: هو إثارة ردود الفعل لدى القراء. وأعتذر لهؤلاء عن مبالغاتي، وأطلب منهم في شكل خاص أن يتفهموا بواعثها التي هي حسب رأيي سليمة.
و لا يهمني التفكير حول التفاؤل والتشاؤم لدى احمدو المفترضين ربما تعسفا ، وعكسا لذلك سآخذ حريتي الكاملة لفهم القصيدة هذا الفهم الذي أعتقد أيضا أنه شخصي.
علي أولا أن أشيد بالشاعر ، هذا المستفز المدهش الذي يهز من حين لآخر هدوءنا وأحلامنا النائمة أو المستيقظة.. فكتاباته نثرية كانت أوشعرية لا تترك مجالا لأحد أن يتجاهلها.. ولا تمثل “السفين” استثناء ، ولكنها تشكل عنصرا جديدا من تقليد راسخ لدى أحمدو .
لقد كان العنوان موفقا.. فأي رمز أكثر دلالة في بلدنا ذي المساحات الواسعة البحرية و الصحراوية من “السفين” ..؟ هذا “السفين” الذي يلخص ماضينا وحاضرنا وربما مستقبلنا وثقافتنا .. فماضينا طبعته إلى حد كبير حضارة القافلة… لقد ظل الجمل في الماضي حامل آمالنا وأفكارنا ووسيلة نداولها بيننا وذلك أمر طبيعي فالجمل هو سفينتنا الصحراوية التي تحمل أثقالنا ولنا فيها مآرب أخرى: فلجائعنا لحمها وألبانها، وللحافي العاري جلدها وشعورها، وأهم من كل ذلك كان الجمل رمز الفخار والرفه في عالمنا القديم، عالم البساطة، والتواضع في المظهر عالم بناه أجدادنا بوسائلهم المحدودة… فأجادوا.
أما عالمنا الجديد فيقع على عواتقنا واجب بنائه بالاعتماد على ما تزخر به أرضنا من ثروات معدنية، وزراعية، رعوية، ولتكوين البناة ينبغي أن نهذب الناشئة، ونحمي رجال الأعمال، لا سيما أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ولكي نستطيع على المستوى الوطني توفير التراكم الرأسمالي الضروري لاستثمار كامل مواردنا الاقتصادية، ينبغي أن نسيطر على الثروة الهائلة التي تزخر بها سواحلنا المنفتحة على المحيط، هذا المحيط الذي على ظهره، يعبر “السفين” سيدا لا منازع له.
بل إنه ليظهر اليوم وكأنه مركب الخلاص لشعبنا الهارب خوفا من الفناء، أوهذا على الأقل ما يتراءى للشاعر في أحلامه أو كوابيسه.
فالسفين بهذا المعنى، هي القاسم المشترك بين حدين زمنين متداخلين: الماضي والحاضر. وإذا كان هذا كله ليس صدفة واتفاقا، فإنه يجوز لنا أن نفترض حلول الضمير الجمعي لشعبنا في الوعي الشاعري للأستاذ أحمدو ولد عبد القادر. أي أن ضمير الجماعة ربما يكون قد عبث في حلم الفرد الشاعر بالتشويه والاضطراب.
ولنا أن نتساءل في البداية لماذا يزج بقومه في البحر؟
يعتقد أنه حيث يفعل ذلك، إنما يتحدى عداء تاريخيا مستحكما بين البر والبحر في التراث المادي والمعنوي لشعبنا تتجاوران دون أن يتواصلا، إنهما يتبادلان التجاهل والازدراء، وإذا كانت بلادنا تطل على المحيط بساحلها الغربي الأطلسي الطويل، فإن ذلك لم يجعل منا شعبا بحريا. بل لقد ظل شعبنا يدير ظهره للبحر على امتداد العصور. وحتى مجموعة “إيمراكن” هذه الجماعة القليلة في عددها المحتقرة حسب الاعتبارات “الحسانية” القديمة، حتى “الإيمراكن” لم يكونوا في يوم من الأيام “رجال بحر” بمعنى الكلمة، فمغامراتهم لم تدفعهم أبدا إلى حد ركوب البحر. لقد كانوا يصيدون وأقدامهم راسخة في الأرض، على البر.
وما دامت الأسماك هي وحدها القادرة على “ركوب البحر” فقد كانوا يحاولون جذبها إليهم بواسطة التصفيق والصفير وغير ذلك من الحركات الإيقاعية السحرية.
أما اللحظة المرابطية الخاطفة وما صاحبها من استيطان مؤقت في جزيرة “تيدرة” فلا يبدو كل ذلك إلا بمثابة استثناء يؤكد القاعدة لا يلغيها. لقد تم في هذه اللحظة تجاوز الخوف الوراثي من البحر وأغواله بفضل تعويذة إيجابية قوامها نكران الذات وإذكاء شعلة الوجد الصوفي وصولا إلى الشهادة العظمى في صفوف جند الله تحت قيادة أبي بكر بن عامر.
غير أن هذا لا يغير من الحقيقة شيئا. فإذا كان البحر هو مصدر رزق “الإيمراكن” وهو ملجأ “المرابطين” فإن ذلك لم يجعل منا نحن الموريتانيين رجال بحر.. رجال البحر هم الآخرون..
ورغم إعجابنا بهؤلاء الآخرين إلى حد اعتبار أنه “لا رجال إلا رجال البحر” فإنهم في نظرنا غرباء ملطخون بعيوب أزلية ليس أقلها شأنا جهلهم لغة الضاد وإنكارهم كتاب الله.
وقد اكتفى البربر والسود في بلادنا باستغلال خيرات النهر الذي كانوا يسمونه “البحر” متجاهلين ما تزخر به شواطئنا الأطلسية من كنوز.
ويظهر كذلك أن أبناء الفاتحين القادمين من عمان وحضرموت قد نسوا مآثر أجدادهم، هؤلاء الملاحون الشجعان الذين تجاوزوا جنوب شرق آسيا إعلاء لكلمة الله وبحثا عن الحرير والتوابل وغير ذلك من كنوز الشرق.
ويحاول الشاعر أن ينجح حيث فشل الحضرميون والمرابطون وربما كان من أعظم مآثر ما تمثله قصيدته من تصالح بين تراثنا والبحر، أو بعبارة أخرى، بين البحر المتنافرين المحيطين بناء بحر المياه وبحر الرمال.
غير أن الشاعر يتجاوز الدعوة إلى المصالحة بين تراثنا والبحر، ليدعونا بشكل واضح إلى الهرب. وهو هروب متسرع وفوضوي، بل إنه لا يخلو من الحقيقة –منحين- لكن الشاعر يعتبر أن هذا هو طريقنا للخلاص وإلا فسيبتلعنا بحر الرمال وفي ابتلاعنا دمار مأساوي لحضارة بنتها الأجيال عبر القرون.
هل الشاعر متشائم أم متفائل؟
هذا جدل بيزنطي لا يغريني. فأنا أعتبر أن مهمة الشاعر “احمدو” قد انتهت عندما أوصل رسالته المستوحاة من محيطه ومن الذاكرة الجمعية لشعبنا أما ما يضيفه الشاعر إلى متن الرسالة من ملحقات تنم عن مشاعره الخاصة فذلك إما أن يكون تعبيرا ذاتيا لا يعنيني أو إقحاما جدليا لا يقنعني.
فالإبداع الفني بشكل عام، والإبداع الشعري بشكل خاص، يصبح ملكا للجميع فور انتهاء عملية التأليف.
غير أني أعتبر أن الانطلاق من الجفاف بوصفه مفتاحا واحدا لتفسير القصيدة يمكن أن يكون مجرد تعسف اعتباطي، لذلك فإني سأبحث عن تأويلي الخاص، ولو اقتضى ذلك أن أبحر بعيدا عن الركب.
من الشائع أن الصحراوي يشبه النبتة الصحراوية التي تملك قدرة فائقة على التكيف مع الظروف الطبيعية مهما كانت متباينة. وعلى ذلك فإن كارثة ترغم شعبا من البدو المحنكين على الهروب على متن سفينة أو مركب عادي، في ظروف غير مشرفة.. كارثة كهذه لا بد أنها هول عظيم أخطر من مجرد الجفاف الطبيعي. إن شعبا ذا تاريخ طويل، عركته المحن ولم تفسده الظروف الطبيعية الملائمة، لا يمكن أن يفقد توازنه في مواجهة كارثة تصيب وسائل العيش كما يصيب العقول والنفوس ومجمل البنية السياسية.
هل يكفي التفسير الأحادي لاسجتلاء هذه الظاهرة؟ لست ممن يعتقدون ذلك ثم إني أرغب إلى نقادنا راجيا أن يقتصروا في مثل هذه التفسيرات التبسيطية التي تؤدي إلى تشويه التحليل مما يؤدي إلى العجز عن تشخيص الداء وعلاجه.
وما دام الجفاف هو كلمة السر، فننطلق من هذا المفهوم، ومع الاقتصار على ملاحظة بعض آثاره المدمرة للبنية الاجتماعية والذهنية. فمن البارز للعيان أن تدهور البيئية الطبيعية بشكل متواصل يؤدي في النهاية إلى موت بطيء للجوهر الحيوي نفسه. هذا الجوهر الذي هو الأرض: أصلا ونموا وغاية..
يقول الله تعالى – في أسلوب قرآني معجز-: «وترى الأرض جامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت». ويؤدي انعدام الأمطار إلى اختفاء الإنسان نفسه في عملية لا معقولة من الانتحار “المازوشي”.
وبالتعاون بين عاملي التخريب البشري ونقص الأمطار يبدأ مسلسل جهنمي: تذوي النباتات… ثم تختفي. ويختل التوازن البشري.. وأخيرا.. تموت الأرض.. أين ذلك من حالة بلادنا منذ عهد قريب؟ منذ أقل من ثلاثين عاما؟ لقد كانت زراعتنا تلبي معظم حاجاتنا الغذائية (قمح، شعير، تمور، إلخ…).. أما اليوم فنحن مرغمون على تحميل اقتصادنا عبء استيراد هذه المواد بالإضافة إلى غيرها مما تتطلب الحاجات الكمالية التي ظهرت عندنا بفعل المحاكاة وإذا لم يكفي الاستيراد لسد خلتنا فإننا لا نجد الملاذ إلا في استجداء الصدقات الدولية.
ومن المفارقة أن تختلق حاجات كمالية جديدة في نفس الوقت الذي تشهد تناقص إمكاناتنا الإنتاجية.
هكذا تزداد بلادنا فقرا وتزداد ديونها حجما، مما يبدد الكثير من الآمال ويغير الكثير من العادات والتقاليد، ويؤدي إلى محنة تعم بمضارها البنية الاجتماعية كلها..
والحقيقة أن تحلل البنية الاجتماعية بدأ قبل الجفاف بعهد طويل، وذلك بتأثير من الاستعمار وما تلاه من فترة “الاستقلالية” لم تكن أقل شأنا في تحطيم القواعد المجتمعية التقليدية.
ومع أني لا أحب أن أطيل على القارئ، إلا أنني أجد نفسي منساقا إلى تقديم شذرات سوسيولوجيا البيظان” وهي شذرات يعرفها الكثير من القراء إلا أن التذكير بها لا يخلو من أهمية.
فقد كان المجتمع الحساني في أول أمره قائما على ثنائية نخبوية غير واضحة المعالم، هي الثنائية: حسان : الطلبة ويظهر هذا البناء الاجتماعي –لأول وهلة- بمظهر الصلابة والتماسك وذلك بفضل التحالف (أو التواطؤ) بين السيف والقلم.
وتحت هذه الزعامة ذات الرأسين، ولدت البنية الاجتماعية الهرمية التي كانت منبوذة من قبل نظام لا يعترف بالوجود لغير الزعيم، أي أن الوجود مرادف للنفوذ (الخلوقية).
فالمحاربون حملة السلاح، و”المرابطون” حملة القلم: كانوا يحكمون مجتمعا كامل الخضوع لطاعتهم بفضل الله وقوة العضلات، فالبسالة المنسوبة للمحاربين والقداسة المنسوبة للمرابطين كانتا بمثابة “إيديولوجية” للنظام ومبرر للطاعة والولاء.
وفي مثل هذا المجتمع الإقطاعي يكون النظام جامدا أزليا. وتمتدح الشجاعة الجسدية والمهارة والجلد. ومن النادر إعطاء نفس الاعتبار للتقوى وغيرها من المحامد المعنوية.
وعندما يظهر شاعر فيلسوف يسخر من القوة الزائلة ويتمنى – بحس ديمقراطي سابق لأوانه- زوال نظام القهر والعنف… عندما يظهر مثل هذا الشاعر، يتعرض للازدراء والسخرية، حتى ولو كان – بالإضافة إلى مواهبه الشعرية- أمير منطقة “آدرار”.
إن هذا المجمع القائم على العنف لا يستطيع تحمل الاستماع إلى أمير البلاد وهو يسخر من النظام القائم:
“درجتنا ألاله اطيحها”.. حتى ولو كان الفرد أميرا، فمن الخطورة أن يأتي قبل زمانه. وفي زمان هذا الأمير كان المحاربون يملكون مالهم وما لغيرهم كل شيء بالنسبة لهم مباح ( مواشي الآخرين، نخيلهم… التمتع بنسائهم… وغير ذلك). أما “الزوايا” الذين كانوا يستفيدون من “الغنائم” فقد كانوا يباركون هذا النهب ويغدقون في تقديم التمائم التي يعلنها “المحاربون” على صدروهم كأنها النياشين.
ولكن سلطة المحاربين لم تتجاوز هذا المستوى المظهري الذي كان يجلب إليهم سخط الفئات المسحوقة ولعناتها” أما “المرابطون” فقد كانوا يمسكون بالمقاليد الحقيقية للسلطة، لأنهم كانوا يتنكرون لهم ويتولون تعليم النصوص الدينية المقدسة، كما كان لهم وحدهم حق ادعاء السيطرة على الشياطين. وغيرها من قوى الشر. ورغم أن هؤلاء “المرابطين” كانوا محل سخط الجميع، إلا أنهم كانوا مخوفين، حتى “سادتهم ” المحاربون كانوا يخافونهم.
وكان لهذه النخبة الثنائية الزعامة أخلاقيات خاصة تعود أصولها إلى عصر الجاهلية العربية كما تشبه حالة أوروبا في العصور الوسطى. فقد كان من المخجل –مثلا- أن يسرق المرء مالا زهيدا. أما الإغارة على قطيع بأكمله فقد كانت محل فخر واعتزاز. وعندما يلحق المحارب أذى بأحد “رجال القلم” فإن ذلك يعتبر ملمة: أما إذا عذب سكان حي من “اللحمة” وجردهم من جميع ممتلكاتهم فباستطاعته أن ينكر بذلك متباهيا.
ومع هذا فيجب أن لا ننسى أن هذه “القيم” السلبية لم تكن وحدها في الميدان، فقد كانت هناك قيم إيجابية قد تدفع “النبلاء” إلى التراجع عن الكثير من الممارسات الظالمة خضوعا لمقتضيات “البرتوكول” الإقطاعي.
غير أن هذه القيم كلها كانت تخص جماعة نخبوية منعزلة. ولهذه الجماعة تأثيرها الحاسم، لكنها كانت ضئيلة العدد لا تلعب في عملية توفير العيش اليومي للمجموعة إلا دورا ثانويا.
ويعني ما تقدم أن تاريخ شعبنا ليس تاريخ ملاحم الارستقراطية “العسكرية” و”القلمية” فقط فقد ساهمت فيه كذلك، وبشكل مؤثر فئات “المحراث” و “المحلاب” و”الصابرة” و”السندان”.
هذه الفئات التي شكلت طبقة “الدهماء” في المجتمع الموريتاني التقليدي، أين كان موقفها في السلم الاجتماعي عشية التغلغل الأجنبي الاستعماري؟ أما طبقتا “المرابطين” و”الحرفيين” فقد كان عددهما قليلا مع توزعهما عبر القبائل والأفخاذ. ولذلك فقد تمتعتا بمكانة خاصة، لكنها غامضة.
فالمرابطون، وهم مستودع الأسرار ورسل الحرب والسلام، كانوا يساهمون في الحياة السياسية للإمارات الحسانية، مستخدمين أسلحة حدادا هي ألسنتهم الذرية، وهم في الغالب ذووا علم ولباقة مما مكنهم من المساهمة في أنشطة في المؤامرات السياسية التي كان مكانها المفضل هو “خيمة أبكير” وللمرابطين دور آخر من كل هذا بكثير، فأشعارهم “أشوارهم” هي مرجعنا الأصلي الوحيد حول التاريخ “الحسني” وذلك على الرغم مما يشوبها من اختلاط الوقائع التاريخية بالتصورات الأسطورية والتزوير المقصود الذي يقوم “الشاعر- المطرب-” ليغطي ممدوحه صورة مزيفة بالمعنى القاموسي لهذه لكلمة.
أما الحداد. هذا الفنان الحرفي، فلم يكن له أن يطمح إلى نفس مكانة “المرابطين” فبالرغم من ثقافته الواسعة أحيانا، وتقنيته النادرة، وحاجة المجتمع الشديدة إلى خبرته، على الرغم من كل هذه المزايا، كان الحداد مذنبا دوما لأنه يحمل على كاهله أوزار بني إسرائيل. وقد كان النسابون يتطوعون لاكتشاف أصول يهودية، حقيقية أو خيالية، لهذه المجموعة، ولا ينفع هؤلاء المساكين علمهم ولا تقواهم، فالمثل الحساني يحكم ظلما بأنه “لا خير في الحداد ولو كان عالما”. أما شهادته فهي مردودة دائما، رغم أن الشهادة في المجتمع التقليدي كانت مناط صحة العقود ورمز اكتمال الإنسانية والرجولة.
وقليل ما يمكن قوله حول “الأزناكه”. هؤلاء التابعين من الدرجة الثالثة، ذلك أن وضعيتهم شبيهة مع بعض الفروق، بوضعية المنبوذين في الديانة الهندوسية وهم خاضعون للمغارم والسخرة ولا يسمح لهم بممارسة غير المهن “القذرة” واندمجت في فئة “الازناكة” مجموعات من الصيادين البريين والبحريين (“النمادي” و”إيمراكن”) قدر لها أن تعيش حياة حرة مستقلة مع أنها حياة تافهة.
وباستثناء “الإيمراكن” ذوي السحنة الزنجية البارزة، تتشابه كل هذه الفئات المسحوقة، من حيث ميزاتها الجسدية، مع الطبقة المسيطرة، وهذا ما مكن الكثير من أعضاء هذه الفئات من التسلل بطريقة أو أخرى، إلى عضوية الطبقة المسيطرة.
ولا يمكن لمجموعة “السودان” الناطقة بالحسانية أن تستفيد من مثل هذه الفرصة، ومن حاول ذلك من السودانيين فإن سماته الجسدية ستنم عن أصله. إنها لعنة “حام بن نوح” هذا الولد العاق الذي وضع اللوح على رأسه فسال المداد على جسده ليصبغه بالسواد صبغة أبدية
هذه الخصائص المتميزة أعطت هذه المجموعة وحدتها، رغم تنوع مكوناتها. وعلى عكس الفئات الهامشية، فإن لهذه الفئة كما عدديا كبيرا يجعلها المجموعة الأكبر، مقارنة مع غيرها من مكونات المجتمع “الحساني” والأكثر مساهمة فهي تمد هذا المجتمع بمقومات البقاء.
وإذا كانت هذه الفئة لم تحقق مآثرها التاريخية في “المحاظر” أو في ميادين القتال، فإنها قد حققتها في “القضور” والمضارب وكذلك في “أدوابه” شمامة والعصابة و”غراير” الشمال في “يغرف” و “دمان” وفي “التامورت” أو في “أدروم”.
وإذا كان الفن الحساني كغيره من الفنون يعتبر تاريخا رومنطيقيا يعبر من روح الشعب الحقيقة فمن المدهش أن نلاحظ هذا التوازن الفني المساير لتقسيم المجموعة الحسانية إلى “بيظان” و “سودان” فالـ “آردين” و”التيدنيت” يعبران بالنغمات الحلوة والنبرات الفنية المحكمة عن جانب من تراثنا الموسيقي.
أما الجانب الآخر من هذا التراث فتعبر عنه النبرات الموحية لآلة “النيفارة” والإيقاع الفخم الهادئ لطبل “الرزام”. وإلى جانب “الاشوار الزمنية” لفن “أزوان البيظان” توجد “الأشوار السودانية” ذات النغمات البريئة والمحتوى الصريح، ويتم أداء هذه “الأشوار” في وقت متأخر من الليل مثل موسيقى (الابتهالات الزنجية Negro-spirituals) في أميركا. أما المحتوى فهو تعبير عن آلام هذه المجموعة وأحلامها المستحيلة.
وتبدأ هذه “الأشوار” بعد يوم من العمل المرهق ثم تشتد وتيرة الغناء شيئا فشيئا حين يغط الأسياد في نومهم العميق يطرد الكوابيس عنهم عمل العبيد في الحقول والمطابخ مرورا بالرحاة أو “المدقة والمهراس” ، المرعى والبئر… وتخفت النغمات عندما يتلاشى وميض النار الموقدة عند نهاية الحفل الذي ينتهي بآهات بائسة محتضرة يثيرها الحنين وعذاب اليتم والاستلاب والغربة.
أناشيد غير عادية قيمة.. هذه الحوارات السحرية التي تغذيها الروح العدوانية لدى السيد المستبد، والتعذيب الجسدي واللفظي، وغضب السيدة وغيرتها، وتتغذى من صعوبة الحياة اليومية والجوع، وبكلمة واحدة: اللاوجود.
… والناي هذه الآلة ذات النغم السحري الذي يربط الراعي – متجاوزا الزمان والمكان – بأصوله المنسية أو يعيده إليها بواسطة نفثات شجية تسحر الإنسان الراعي والحيوان المرعي فيتضامنان في مواجهة قاهرهما.
إن هذه الموسيقى “السودانية” الليلية العجيبة ذات الطابع الحالم المؤلم ليست في النهاية إلا تعبيرا عن فظاعة الحياة لهؤلاء المستضعفين الذين يحاولون اقتناص لحظات ليلية من أعمارهم التي يملكها أسياد الحياة النهارية. وعلى الرغم من المظاهر فإن الموسيقى تعبير أليم عن ذاتية ثاوية ترفض المسخ والذوبان وتقاومهما بأساليب قد تكون ملتوية ولكنها –على كل حال- معبرة.
وشبيه بذلك ما كان البعض يستغربون من قوة تحمل “السوداني” وتقبله العقارب بصدر رحب، بل وبسخرية في بعض الأحيان، ولكن هذا ليس إلا نوعا من ازدواج الشخصية يضطر (المضطهد) لتمثيله كي يستطيع تحمل حياته اللاانسانية. وقد كان ذوو الذوق الرفيع يستهجنون قهقهة العبيد ويعزونها إلى خشونة وراثية في الطبع. بيد أن الأمر لا يعدو أن يكون نوعا من التمثيل والتظاهر بالبلاهة لطمأنة السيد. إنها الشفاه تضحك، أما القلوب فإنها تنزف آلاما ودما. أما خشونة أقدام العبيد وأياديهم فما هي إلا دروع لاتقاء الحر والبرد ووخز الأشواك ولدغ الثعابين.
… هكذا أرغم هؤلاء “السودان” المساكين على العيش في عالم منعزل من الأوهام الساذجة.
وليس هناك من رابط بين عالمهم الوهمي والعالم الحقيقي إلا هذه “الحسانية” التي تتكسر على ألسنتهم مثلما تتكسر “الإنجلزية” على ألسنة أقاربهم من السود الأمريكيين.
إنه عالم من الضياع والعدمية…
بائس عالمكم يا “مبروك” و”مسعود” ويا “مبروكة” و “إسلم عربيها” إنكم غرباء حتى عن أنفسكم وحتى أسماؤكم لا تمتلكونها، بل هي مجرد ابتهالات موجهة إلى العلي القدير لكي يحفظ أسيادكم (ايسلم عربيها) أو ليبارك لهم في أموالهم (مسعود، مبروكه).
إنها حقائق مرة.. لكني أقدمها هنا بدون حقد. ولا أريد توجيه لوم مبالغ فيه لأي كان، فأبناء الضحايا (من مختلف الفئات) وأبناء ظالميهم بالأمس، يشتركون اليوم، هؤلاء وأولئك في تراث واحد ويقاسون المصائب نفسها، ويحملون نفس الآمال. هذا بالإضافة إلى ما يربطهم من علاقات القرابة بالنسب والمصاهرة والرضاعة.
والمطلوب هنا، هو أن نغير عقلياتنا حتى نتمكن من تقليب هذه الصفحة المأساوية من تاريخنا ويتطلب ذلك تفكيرا رزينا توجهه إدارة وطنية مسؤولة. ثم يجب أن ننسى أن هذا هو تراثنا بجوانبه المظلمة والمضيئة. وأما هذا الوعي الجديد فإنه ناتج عن الصدمة الاستعمارية. ولذلك لا ينبغي أن نقسو على تاريخنا أكثر من اللازم باستخدام أدوات في التحليل والحكم غريبة عن واقعنا.
وأنا أعترف أني بالغت في الحديث عن صلابة الحواجز التي كانت تفصل بين الفئات الاجتماعية. فالسلم الاجتماعي الموريتاني ظل يسمح للبعض بالصعود في حالات نادرة. أما الهبوط عليه فقد كان أسهل بطبيعة الحال. ومن أمثلته حلة “التياب” أو “المهاجرية”، وهم محاربون يقررون بوازع الخوف من الله أو من بني عمومتهم أن يلقوا السلاح وبمحض أنفسهم للعلم والتقوى. وبذلك يحصلون على الطمأنينة النفسية، وقبل ذلك على النجاة بالبدن، لكنهم يظلون عرضة للاستحقار من قبل أندادهم السابقين وأشياخهم الجدد. ويترجم رقي بعض “السودان” إلى مستوى النبلاء أو حتى إلى درجة العلماء الموقرين، مظهرا آخر من مظاهر حركة المجتمع الذي لم يكن جامدا بشكل دائم.
وعلى كل حال فلا يمكن إلا أن نعترف بأن نظامنا الاجتماعي التقليدي، لم يكن قائما على العدل بل إن العكس هو الصحيح، وهو أن القيمين على هذا النظام لم يكونوا يؤمنون بالمساواة كمبدأ يحكم العلاقات البشرية. وكذلك فإن المستضعفين لم يكونوا يأملون بإمكان الخلاص، بل كانوا يعتقدون أنهم خلقوا ليضطهدوا (بفتح الهاء) كما خلق النبلاء ليسودوا. وـ كان السادة يشاطرونهم هذا الاعتقاد.
إنه مجتمع قائم على الظلم. لكنه مع ذلك كان مستقرا بشكل غريب. قد تكون القواعد التنظيمية اعتباطية وسخيفة، غير أن المجتمع كان يقرها ويطيعها، رغبة أو رهبة. ولا ينفي هذا وجود تناقضات خطيرة بتحطيم القواعد الاجتماعية على المدى الطويل أو المتوسط.
غير أن هذه التناقضات كانت خافتة لا يمكن أن يستشعرها إلا الشعراء. ومن هؤلاء الشعراء الأمير الذي ذكرنا تنبؤه بأفول نجم الطبقة الحسانية المحاربة، يقول متحدثا عن “درجتنا” (أي سطوتنا ومكاننا نحن المحاربين):
“لا جات الريح تطيحها ** ولا ماجت الريح تطيح”
(إن هبت الريح أسقطتها فإن لم تهب سقطت من تلقاء نفسها).
وبصورة عامة، فإن المجتمع التقليدي قد حافظ على بقائه لفترة طويلة. لكن التناقضات الداخلية التي كانت تنخر في بنائه، قد أضعفته عن أن يستطيع حماية الحوزة الترابية والمآثر الحضارية لبلدنا. وبذلك أصبحت الطريق سالكة أمام المستعمر الذي تغلغل داخل بلادنا بدون مقاومة شعبية حقيقية. وسبب ذلك أن الجماهير الكادحة لم يكن لها ما يمكن أن تخسره بحلول الاستعمار، بل إن تغير الأسياد كان يغذي أوهام بعض المسحوقين بإمكانية تغير الأوضاع المأساوية؛ وذلك بالرغم من المخاوف التي يثيرها التهديد بفقدان الهوية الحضارية، لاسيما في جانبها الديني.
ومن أسبابه كذلك انضمام مجموعة من الطبقة السائدة من الزوايا والمحاربين، إلى الغازي الأوروبي بحماس ظاهر. وهذا لا يقلل من شأن المقاومة البطولية الرائعة التي قادتها مجموعة قليلة من أبطالنا الأشاوس. وعلى الرغم من تفوق الخصم في العدة والعتاد، فإنه لم يستطع اكتساح بلادنا إلا بعد أن دفع ثمنا باهظا وقد سقط آلاف الشهداء من أبطالنا الذين شنوا على المستعمر حربا شعواء استمرت ثلاثين سنة، ومن هؤلاء الشهداء نخص بالذكر أميرين أحدهما في العقد العاشر من عمره والآخر في عز الشباب. غير أن الاستعمار قد انتصر في النهاية، وكان لانتصاره تأثير حاسم على التطور الاجتماعي لبلدنا.
نقلا عن مورينيوز