معالي الوزير: هل تعرف أستاذا اسمه أحمدو ولد محمد الفخيم؟!!
ترى هل يعقل أن يورط كاتب صحفي نفسه في إطراء “مجرد” أستاذ تعليم ثانوي، لا هو مدير، ولا أمين عام، ولا وزير، ولا تاجر قدير، و لا نافذ كبير، أو مترف شهير..!!
أحمدو ولد محمد الفخيم أستاذ لم تربطني وإياه سوى زمالة العمل وصداقة المعاشرة في مدينتي التي صارت مدينته أكثر من كل سكانها الذين جره إليهم حظهم الباسم؛ فحول إليهم منذ تخرجه عام 1995 أستاذ رياضيات متمرسا ومقتدرا وناصحا أمينا لهم ولأبنائهم من تلامذته الذين ظلوا يجلونه أكثر مما يجلون آباءهم، ويثقون فيه كما لم يثقوا في غيره من العالمين..
تخرج الأستاذ أحمد ولد محمد الفخيم المنحدر من ولاية الترارزه عام 1995 وحول للتدريس في ولاية آدرار؛ وتحديدا في مدينة شنقيط التي لم يكن يتوقع يوما أن تقوده إليها أية ظروف، وأيضا دون يسوؤه خبر تحويله إليها؛ لأن قناعته بمهنة التعليم وشرف أداء الخدمة العامة جعلته يعتقد أن الموظف العمومي الحق هو ذلك الشخص المستعد أبدا للخدمة في أي جزء من وطنه مهما بعد مزاره وشط قراره؛ لذلك ظل يدرس في تلك المدينة دون كلل ولا ملل قرابة خمس قرن من الزمن تمكن خلاله كل أترابه؛ إما من الحصول على ترقيات وظيفية، أو التحويل إلى مدن ومقاطعات يطلبونها ويرتاحون للعمل فيها.. إلى أن عصفت ب”طود شنقيط الشامخ” مذكرة التحويل المثيرة للجدل؛ فألقت بصاحبنا بعيدا في ولاية لبراكنة التي حولته إدارتها الجهوية إلى ثانوية “بوغى”. نزل تحويل الأستاذ المفاجئ على سكان المدينة نزول الصاعقة؛ فأين لأبنائهم بمثل ذلك المدرس الذي كان لأبنائهم أستاذا، ووكيلا، وناصحا أمينا: يحل مشاكل التلاميذ في المؤسسة والقسم نهرا وزجرا، ونصحا، وعطفا، وحنوا.. دون حاجة لاستدعاء وكلائهم (إلا في حالات نادرة)، ثم لا يتردد في إجبار ضعاف المستويات منهم (ترغيبا وترهيبا) على متابعة دروس تقوية مجانية معه في أيام الراحة الأسبوعية بالقسم؛ وحتى في بيته المعمور ضيوفا وزوارا.. لا يسأل من أحد جزاءا ولا شكورا..! صدمت يوم علمت (متأخرا) بتحويله عن المدينة؛ واتصلت به هاتفيا غداة أول يوم دراسي في هذا العام لمواساته والتضامن معه، وأنا أظنه يعتصم أمام الوزارة مع زملائه المعتصمين؛ ليفاجئني بأنه مسافر وأنه يوجد على بعد بضع كيلومترات من مدينة بوغي التي حول إليها.!! سألته: “أقبلت التحويل؟ ولم تعتصم مع المعتصمين”؟ فرد علي: “نعم، ما المشكلة في التحويل؟ نحن موظفون عموميون؛ هذه مسئوليتنا.. علينا أن ندرس ونخدم التلاميذ أينما وجهنا أو حولنا”!! عجبت للرجل الذي لا يتغير؛ حتى وهو يدرك (في ظني وقناعتي) أنه ينكل به ويحول تحويلا تعسفيا، ويتنكر لكل عطائه الخيالي؛ لمجرد أنه مارس حقه مرة واحدة في ممارسة حق نقابي!!.. لم يكن الرجل يوما مؤدلجا ولا سياسيا، كان فقط مهنيا وصادقا وصبورا وجريئا في إبداء رأيه وموقفه.. أساء كثيرون فهمه عندما كان يصر (وهو يراقب التلاميذ في الامتحانات والمسابقات) على أن يكون مراقبا أو لا يكون.. لهذا ظل ملفه طيلة 17 سنة خلوا من أي تقدير، بل ربما كان مليئا بالملاحظات السيئة!! هذا على الأقل ما يؤشر عليه تجاهل خدمات الرجل الجليلة، ومنعه من أي ترقية؛ سوى تعيينه “مراقبا عاما” قبل سنة؛ وهي الترقية التي تنازل عنها بملإ إرادته العام الماضي عندما واجه ضغوطا كي يتوقف عن القيام بما يترتب مهنيا، ومنطقيا، وأخلاقيا على تلك الترقية.. فطلب إليه (حسب إفادة كثير من سكان المدينة وطلابها وأساتذة ثانويتها) أن يغض الطرف عن تغيب التلاميذ، وتسيب التلاميذ، وتسرب التلاميذ.. وأن يكف عن استدعاء وكلاء وآباء بعض التلاميذ المشاغبين إذا كان هؤلاء الوكلاء والآباء من “كبار المسئولين في المدينة”، وكانت عاقبة أمره وجزاء “إزعاجه” أن شملته مذكرة التحويل المثيرة للجدل؛ فأبعد عن المدينة وولايتها، وعن كل ما يمت لها بصلة، ثم حرم من التحويل إلى ولايته التي لم يعمل بها منذ تخرجه قبل 17 سنة…! بالتأكيد أن ألأستاذ الفخيم قد لا يكون الوحيد الذي حول تعسفيا في تلك المذكرة، وبالتأكيد أن ليس كل الذين حولوا كان تحويلهم تعسفيا، وبالتأكيد أيضا أن في أساتذتنا الكرام كثيرين آخرين من طراز أحمدو ولد الفخيم.. لكننا أردنا أن نتحدث عن نموذج من الأساتذة اخترنا أن لا تكون لها به رابطة أو علاقة شخصية (لا زمالة دراسية، لا رابطة جهوية أو قبلية أو سياسية، ولا حتى “صداقة” بالمفهوم الدقيق والتقليدي للكلمة).. إنها إذن ليست قضية “شخصية”؛ بل هي قضية وطنية أردنا تقريبها للأذهان بمثال “شخصي”.. وإنه مشكل مزمن راح ويروح ضحيته كثير من جنود هذا الوطن المجهولين.. إنهم عباقرة كثر يعملون في القطاع العام سنظل نجهلهم ما دام رؤساؤهم في العمل يرفضون تعريف رؤسائهم بهم؛ لأن معرفتهم على حقيقتهم تسلط أضواء كاشفة على أولئك الرؤساء لا تتحملها قواهم الضعيفة وأداؤهم “الوطني” الهزيل”؛ فيركزون أبدا على تتبع عورات الملهمين؛ فإن لم يجدوها اختلقوها؛ دون أن يهتموا بحكمة شعبنا العظيمة: “ال باع صاحب اف 99 زلة باع بيع ابخيس”؛ فما بالك بمن يبيع خيرة أبناء هذا البلد في “زلة” واحدة.. إذا اتفقنا فعلا على أنها زلة (اعتذار أحمدو ولد الفخيم عن الاحتفاظ بصفة “مراقب بلا رقابة”). لا أحب جلد الذات ولا الحديث عنها؛ لكني مضطر لأحدثكم عن أنني عندما تخرجت عام 2001 أستاذا للتربية المدنية والفلسفة؛ حولت مباشرة إلى ثانوية شنقيط حيث تعرفت على الأستاذ الفخيم الذي تخرج قبلي بست سنوات؛ وحيث وجدت أن الثانوية لا يوجد بها أستاذ للتربية الإسلامية، وتعاني نقصا في أساتذة اللغة العربية، فمارست فيها تدريس التربية الإسلامية لجميع الفصول، واللغة العربية لبعضها، بالإضافة للتربية المدنية والفلسفة طيلة أربع سنوات متواليات.. بعد ثلاث أو أربع سنوات تمت ترقيتي إلى مدير دروس مفرغ (وإن كنت واصلت تدريس بعض المواد)، وطبيعي أنني فرحت بهذه الترقية؛ غير أن شيئا واحدا ظل ومازال ينغص علي تلك الفرحة؛ وهو أنني حصلت على الترقية قبل أن يحصل عليها رجل فريد اسمه أحمدو ولد الفخيم!! رغم أن أيا من زملائي لم يفرح بترقيتي مثلما فرح بهذا الأخير!! لا يعني هذا أنني بهذا المقال أرد جميلا للرجل.. أبدا؛ فجميله لا يستطيع فرد أن يرده؛ لأنه جميل قدمه للوطن ولأجياله الصاعدة.. ولكنني أردت الإشارة إلى صفة أخرى من صفات الرجل: إنه مطهر من عقد “الغيرة” والشعور بالنقص.. إنه شديد الثقة في النفس وفي الآخرين أيضا.. لكن دون غرور ولا تكبر.. إذن؛ أنا لا أعرف ولد الفخيم معرفة “خاصة”، ولكنني بالقطع أعرفه معرفة جيدة من خلال وظائفه الاجتماعية والوطنية، وأجزم أنه مجرد نموذج لكثيرين غيره أعرف بعضهم وأجهل أكثرهم.. والمفارقة العجيبة أن المسئول الأول عن حقوق هذا الرجل الفريد وعن حقوق كل رجال التعليم في بلادنا هو معالي كاتب الدولة للتهذيب الوطني والتعليم العالي والبحث العلمي الأستاذ أحمد ولد باهية والذي لا أعرفه هو الآخر إلا من خلال وظائفه الاجتماعية والوطنية؛ ومما أعرفه عنه يقينا ذلك الخلق العظيم والتواضع الجم الذي يتمتع به.. وقد يكفي مثالا لذلك أن الرجل قد يدخل على ألف أستاذ في مهمة عمل بمدرج أو قاعة كبيرة؛ فلا يقبل الدخول في المهمة التي جاء من أجلها قبل أن يمر على كل من في القاعة ويسلم عليهم فردا فردا، ويعانقهم واحدا واحدا بوجه بشوش، وفم ضاحك، واحترام كبير!!! مثل هذا الرجل الذي هذه أخلاقه؛ أجد صعوبة بالغة في تصديق أنه يتعمد استهداف حشرة بأذى مقصود، أحرى أن يستهدف كل هؤلاء الأساتذة الذين لا يجد فرصة إلا أبان فيها عن احترام وتقدير كبير لهم! فمن أين جاءت المشكلة إذن؟ هذا ما حاولت المساهمة في الكشف عنه بهذا المقال؛ آملا من معالي الوزير ومن كل الوزراء، وحتى من الرئيس أن يبدءوا التفكير جديا في البحث عن طرق أنجع لفهم القطاعات التي تتبع لهم والتثبت من حقيقة ما يدور فيها. وأتمنى على معالي كاتب الدولة للتهذيب الوطني أن يعيد التحقيق في ملابسات مذكرة التحويل؛ وأن لا يتردد في إنصاف كل من وقع عليهم ظلم بسببها، وأيضا أن لا يجامل من ظلم نفسه في شأنها؛ فتحويل الموظفين حق مشروع للإدارة؛ لكن شرط احترام القوانين والمعايير الموضوعية المعروفة والمعلنة. و”إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفقي إلا بالله”.. محفوظ ولد الحنفي