هل انتهت سوريا كدولة؟
“اللصّ الصغير يُلقَى به في السجن أما كبير قطّاع الطّرق فيصبح رئيس دولة” زووانغ زي
ـ1ـ
تُظهر خريطة نشرها مند يومين معهد دراسة الحرب في واشنطن (المقرّب من شركات الصناعة العسكرية الأمريكية) ما قُدُّم على أنّه عرْض لصور أقمار صناعية تؤكّد “وصول عدد من الدبابات الروسية الرئيسة ومن ناقلات الجند المدرعة ومن المروحيات، ووصول غيرها من المعدات العسكرية إلى قاعدة جوية متضاعفة الحجم (…)
كما تؤكّد أن روسيا قد نَشرتْ قوات داخل سوريا. وقامت تزامنيا بمناورات عسكرية داخل روسيا (…) مما يشير إلى أن الأخيرة قد تنوي نشر قوات إضافية داخل سوريا”.
وقد تزامن هذا التسريب ـ إنْ صحّتْ التسمية ـ عن التضاعف السريع للحضور الروسي برًّا وجوا في سوريا مع دخول الولايات المتحدة وروسيا في مرحلة جديدة من “النقاش” الثنائي المباشر حول بلد أصبحتْ هاتان الدولتان عمليا تتقاسمان أجواءه بالمعنيين الحرْفي والمجازي. وتحاولان رسم خريطته فيما يمكن أن نسميه إحدى اللحظات الإشكالية لاتصال / انفصال التاريخ والسياسة.
ـ2ـ
في ورقته “إيران وسوريا : نهاية الطريق ؟” (الصادرة في يونيو الماضي عن معهد ولسون في واشنطن)، يقسّم الدكتور جبين غدارزي مسار الأزمة السورية منذ اندلاع الثورة سنة 2011 إلى ثلاث مراحل. في الأشهر الأولى عرفَ النظامُ السوري عدّة نكسات وبدتْ أيامه معدودة. ولكنّه مع منتصف سنة 2013 أخذَ يستردّ أنفاسه شيئا فشيئا. بدا عكسا للمتوقّع وكأنه قد نجا من أصعب مراحل العاصفة. ولكنّ هذه المرحلة انتهتْ مع الأشهر الأولى من سنة 2014. استفاد إذًا نظامُ الأسد مرحليًا من تحول سوريا إلى ساحة لحروب بالوكالة. إيران اعتبرت تلقائيا أن جيرانها الخليجيين يريدون لأسباب عدّة طرْدها من سوريا وإنهاء تحالف لابديل عنْه بالنسبة لها ناهز عمْرُه الـ 36 سنة. أما الروس فيرون كما هو معروف أن الغربيين يستهدفون علنًا إخراجهم من بلد يضمّ آخر حضورٍ عسكري دائم لهم في الشرق الأوسط.
ـ3ـ
في سبتمر سنة 2012 أصدر مركزُ الأمن الأمريكي الجديد (المقرّب من وزارة الدفاع الأمريكية ومن إدارة الرئيس أوباما) ورقة تخطيطية : “الأسد تحت النار : خمسة سيناريوهات لمستقبل سوريا”. تتوقع معدّة الورقة ميليسا دلتون في السيناريو الأول قتلا مفاجئا للرئيس الأسد قد يسمح بالحفاظ على مؤسسات الدولة عبر بقاء عناصر من نظام الأسد في السلطة مع تزايد نفوذ المعارضة وإنْ لم يسمح بالضرورة بتأمين كاف للأسلحة الكيميائية السورية. ولكن هذا السيناريو قد يعني في نظر السيدة دلتون احتماالين آخرين مغايرين. أحدهما أن تُعلن المعارضة انتصارَها مع مقتل الأسد دون أن تمتلك استراتيجية منسجمة للمرحلة الانتقالية لما بعد الأسد. أما الثاني فأن تستغلّ المجموعات المسلحة التي “تستلهم أسلوب القاعدة” ـ بحسب تعبير الورقة ـ فرصة الاضطراب في النظام لتستولي على أغلب المناطق المدينية في سوريا. أما السيناريو الثاني فيفترض انتصار الجيش الحر وبقاء مؤسسات الدولة وتنظيم مرحلة انتقالية يكون فيها للولايات المتحدة وحلفائها دور فاعل. في السيناريو الثالث تنتصر “المعارضة” ولكن الدولة تنهار مع رحيل الأسد. أما السيناريوهان الأخيران (الرابع والخامس) فيتعلق أحدهما بإمكانية استمرار نظام الأسد في السلطة مع تـفكّكٍّ تدريجي لمؤسسات الدولة وتغولٍ للطابع الطائفي للحرب وتفاقمٍ لأزمة اللاجئين السوريين. أما الآخر فيمثل استمرارا بشكل ما لسابقه عبر تفكّكّ كلي وشامل للدولة السورية على أسس طائفية وإقليمية.
واضحٌ أن السيناريوهين المظلمين الرابع والخامس أصبحا الآن أقرب إلي الواقع. أوهما الأكثر ورودا في اتقارير والأوراق منذ ثلاث سنوات (مثلا تقرير مؤسسة رأند “آفاق بديلة في سوريا”، ديسمبر 2013، وصيغته المعدّلة السنة الماضية بعد ظهور تنظيم الدولة).
ـ4ـ
غير أن ظهور مجموعات مسلحة “جديدة” كتـنظيم الدولة أواسط 2014 قد أعطى للمرحلة الثالثة من الصراع أبعادا جديدة جعلتْ أجزاء من خريطة الاصطفافات القائمة قابلة للتغير إن لم نقلْ إنها عمليا قد تغيرتْ بالماضي. فمن ناحية تمكّنتْ منذ شهر مارس الماضي جهاتٌ اقليمية (كتركيا والسعودية وقطر) داعمة لعدد من المجموعات المسلحة المعارِضة لنظام الأسد أن تتجاوز بعض خلافاتها بشأن هذا الملف وأن تدفع المجموعات المحسوبة عليها إلى مزيد من التنسيق. وهو ماسمح لهذه المجموعات بتقدّم ميداني سريع نسبيا اضطر النظام السوري إلى اللجوء أكثر إلى الدعمين الروسي والإيراني. وهو ما يعني بداهة أن هامش مبادرته السياسية الخاصة يزداد تقلصا وربما يقترب من الصفر لصالح توسع هامشيْ المبادرة في نفس الملفّ لدى الروس والإيرانيين.
ـ5ـ
لم تخف السلطات الروسية كما لم تخف السلطات الإيرانية عدم رضاها ـ وربما غضبها ـ من الطريقة التي تصرّف بها النظام السوري منذ اندلاع الثورة سنة 2011. وهي سلطات تُحمّل ضمنيا ـ وأحيانا صراحة ـ نظامَ الأسد جزءا كبيرا من المسؤولية عمّا جرى في سوريا. وهو ما يعني أنما تسميه اللغة الصحفية بتمسك روسيا وإيران بـ”الأسد” أمر جدّ نسبي. وإن بدا غير ذلك مرحليا. ولكنهما تعتبران أن كل العروض التي قدمتْ لهما منذ بداية الحرب السورية لا تتضمن بديلا “معقولا”. وقد حاولتْ في البداية جهات قريبة من إيران كحزب الله (قبل تورّطه العسكري المباشر) أن تلعب دور الوسيط بين الرئيس السوري ومعارضيه في المنفى. وهو ما لم يقبل به أي من الطرفين لأسباب معروفة. وكما يُذكِّر بذلك جبين غدارزي في ورقته فإن إبعاد إيران بين 2012 و2014 من مسلسل التفاوض الذي قاد إلى جنيف واحد وجنيف اثنين قد جعلها تميل الى استبعاد امكانية التوصل إلى أي تسوية سياسية للقضية السورية وأن تعتبر الخيار العسكري وحده الخيار المطروح. ولكن عودة إيران إلى الساحة الديبلوماسية مع اتفاق فيينا قد غيّر بعض المعطيات. وليس من المستبعد أن تتحمّس إيران الآن لتسوية سياسية لللقضية السورية تسمح لها بالاحتفاظ بما تراه تواجدا حيويا لها في سوريا وبشراكة أكبر مع الدول الغربية التي تدرك تضاعف القدرة الإيرانية في السنة الأخيرة على الضغط على النظام السوري. خصوصا أن التخوف المتصاعد من الانهيار الشامل لمؤسسات الدولة السورية أصبح هاجسا مشتركا لدى أغلب الأطراف المتورطة في الملف.
حديث السبت ـ د. محمد بدي ابنو*
* مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل