الحراطين:فرصة لموريتانيا

altحين تم الإعلان ـ رسميا ـ عن ميثاق الحراطين، وسط أجواء احتفالية كبرى يوم 29 إبريل 2013؛ بحضور ملحوظ لقادة الحراطين الانتهازيين ومناصريهم؛ على عكس وثيقة الزنجي الموريتاني المظلوم، التي تم تهويلها بعد أن أعدت بسرية تامة في إبريل 1966؛ أعطى ذلك انطباعا بأن هذا الميثاق أعد بمباركة السلطة الاقطاعية من أجل تزيين المشهد وبالتالي كسب مزيد من الوقت، وهو ما لا ينم عن مستقبل أفضل.

إن غياب قادة آدوابة ووجهاء حراطين الداخل؛ وهم الناخبون الكبار الذين يتعرضون ـ يوميا ـ لممارسات الظلم والازدراء والغبن بشتى أشكاله؛ يظهر (إن كانت هناك حاجة لذلك) أن النظام الإقطاعي يواصل عرض مسرحيته الهزلية التي لا تهتم سوى بنخبة الحراطين التي تظل غالبيتها قابلة للتوظيف الطوعي.

وسيفضي هذا الحراك الصاخب، دون شك؛ قبل أن يتم ناسيه، إلى تعيين بعض الانتهازيين الحراطين ومقربيهم في مناصب هامة وإلى توزيع انتقائي لبعض الصدقات على أساس الشعار الذي يردده هؤلاء الانعتاقيون: التمييز الإجابي؛ وهو إجراء يهدف إلى منح الأفضلية للمجموعات الأقل تمثيلا من أجل تصحيح الفوارق ما أمكن. لكن ذلك التمييز الإيجابي، الموجه تماما من قبل السلطة الإقطاعية، ذو نتائج عكسية.

ذلك أن غالبية النساء اللائي تم اكتتابهن على أساس هذا المبدأ المثير للجدل، قد تم اختيارهن ضمن الأوساط المقربة من السلطة القبلية وأحزاب الأغلبية. ولا يشذ الأئمة الحراطين الخمسون عن ذات القاعدة حيث تم اكتتاب غالبيتهم من بين الأرقاء السابقين الفخورين بخضوعهم للنظام الإقطاعي.

إن جميع إجراءات التمييز الإيجابي الكفيلة بتقليص الفوارق في الفرص، والفوارق الاجتماعية، والفوارق في الترقية؛ التي ما يزال يعاني منها ـ دائما ـ الأرقاء السابقون، يجب أن تبدأ من القاعدة. أي في آدوابه وفي ضواحي المدن الكبرى حيث يعيش السكان الخاضعون للتمييز. وليس الاكتفاء بمنح ترقيات لبعض الأطر الانتهازيين الذين يجنون فوائد من هذه المأساة.

يجب أن يتم الولوج إلى الوظيفة العمومية عن طريق مسابقات طبقا للقانون، ويجب اختيار لجنة توافقية محلّفة من بين أفضل الأطر للسهر على شفافية وحسن سير الامتحانات والمسابقات.

اليوم أصبح أغلب الانتهازيين في حركة “الحر” وأنصارهم وزراء سابقين، سفراء سابقين أو موظفين سامين؛ مع مرور الزمن، وهم جزء من المنظومة الإقطاعية، حتى أن بعضهم يبدون أكثر ملكية من الملك، وينبغي مكافحتهم.

أما المثاليون الأكثر نشاطا، خاصة في حركة “إيرا”، فقد تم اختراقهم وتوظيفهم بشكل مكشوف من قبل مخابرات النظام الإقطاعي الذي يلقنهم خطابا متطرفا هجوميا عند الحاجة أفضى إلى سجنهم إثر حرق كتب الفقه المالكي، حيث كان ذلك العمل أشبه بسيناريو حقيقي تم إعداده من أجل تغويلهم.

وفي أثناء ذلك فقدت “إيرا” مصداقيتها بفعل طابعها العنيف، والبذيء، والمستفز؛ وكذا تصرفها المتعصب والفئوي الذي يكتسي، أحيانا، طابعا عنصريا غير منسجم مع رسالتها. فقد شجبت ـ بوقاحة ـ تشغيل خدم منازل قاصرين من الحراطين مقابل أجور لدى عائلات بسيطة من البيظان؛ باعتباره شكلا من أشكال العبودية المعاصرة؛ بينما لم ينددوا ـ قط ـ بنفس الفئة من عمال المنازل الذين يعملون في نفس الظروف لدى بعض أطر ووجهاء الحراطين، وكذا بمن يمارسون نفس العمل في ظروف مماثلة لدى التوكولور والسوننكيين؛ يتماهون معهم في لون بشرتهم.

حين أراد النظام العشائري استخدام “إيرا” لغرض المهزلة الانتخابية ذات النتائج المعروفة سلفا، منح زعيمها حرية مؤقتة وسلمه شهادة تبريز في خرق سافر للقانون، وعمل على تزكية ترشحه لرئاسة الجمهورية من طرف المجلس الدستوري القبلي؛ الذي يرأسه ـ بالمناسبة ـ حرطاني من السلطة الإقطاعية. وبتشريعها تلك الأكذوبة، عززت “إيرا” السلطة التي كان يفترض أن تكافح ضدها.

بعد ذلك، لما أراد زعيم “إيرا”؛ مدفوعا بجائزته وبنتيجته في انتخابات يوليو 2014؛ تهدئة خطابه ليكون أكثر قبولا؛ تم وضعه في السجن لأن السلطة لا يمكن أن تقبل هذه المنظمة من دون خطاب يتسم بالعنف والحقد الموجه لترهيب مجموعة البيظان سبيلا إلى إرغامها على البقاء متضامنة مع النظام الإقطاعي.

لا يمكن تناسي الدور الإيجابي جدا لعدة جمعيات مناهضة للرق ضمن المجتمع المدني، وخاصة منظمة “نجدة العبيد” التي تكافح دون كلل منذ سنوات عديدة بأسلوب راق وتربوي، بكل استقلالية وبوسائل متواضعة؛ ضمن احترام قواعد القانون والشريعة من أجل حرية ورخاء الأرقاء السابقين.

إن الحراطين يشكلون فرصة لموريتانيا. ويجب على القبائل البربرية ـ العربية، الزنجية ـ الموريتانية، بالضرورة، أن تتبناهم. لقد آن الأوان لكي تتقبل مجموعاتنا المبدأ المؤسس للجمهورية: المساواة في المواطنة.

ومن أجل تعزيز هذه المساواة؛ وهي أحد المبادئ الأساسية لديننا الحنيف، يجب تشجيع الزواج المختلط بين مجموعاتنا وشرائحنا. ينبغي أن لا نكون أكثر ملكية من الملك. فرسول الله محمد عليه الصلاة والسلام زوج ابنة عمه زينب بنت جحش لمولاه السابق زيد بن حارثة. كما أمًّره على جيش المسلمين خلال معركة مؤتة، حيث كان تحت إمرته كثير من الصحابة رضوان الله عليهم.

ولاحقا عين الرسول صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وزينب لقيادة جيش آخر ضم عمر بن الخطاب الذي أصبح خليفة للمسلمين فيما بعد. وقد قال هذا الأخير؛ وهو على فراش الموت؛ أمام جمع من خيرة أصحاب رسول الله بينهم ـ على الخصوص ـ عثمان بن عفان، علي، سعد، الزبير، طلحة وعبد الرحمن بن عوف: “لو أن سالم مولى أبي حذيفه لم يزل معنا لكنت اخترته ليخلفني”.

كل هذا يثبت، إن كانت هناك حاجة لذلك، أن المعايير الموضوعية من تقوى واستتقامة أخلاقية، وكفاءة وأهلية، هي وحدها التي يأخذ بها الإسلام في الاعتبار.

إن انعتاق الحراطين في انسجام مع المكونات الأخرى، سيكون له وقع الخلاص بالنسبة لشعبنا ويبشر بمستقبل أفضل. ويجب على السلطة والطبقة السياسية الأخذ في الحسبان بهذا الرهان الحيوي بالنسبة للوئام الوطني.

يقدر عدد سكان موريتانيا بنحو 000 500 3 نسمة يتوزعون ـ تقريبا ـ على النحو التالي: 35 إلى 40% من البيظان؛ 35 إلى 40% من الحراطين؛ وما بين 25 إلى 30% من الزنوج الموريتانيين.

يعتبر البعض أن العنصر الحرطاني يشكل أغلبية ضمن مجموعة العرب ـ البربر، فيما يرى آخرون العكس. وفي غياب إحصائيات يعتد بها وتحظى بالتوافق، يظل من شبه المستحيل إيجاد تقديرات غير مطعون فيها من هذه المكونة أو تلك.

ومما لا شك فيه أن بعض العوامل الديمغرافية الحقيقية تدعم أغلبية المكونة السمراء، خاصة معدل الإنجاب الأكثر ارتفاعا لدى الزنوج الموريتانيين (حراطين، سوننكيين، بولار، وولوف) إلى جانب الزواج المبكر وتعدد الزوجات الممارس ـ بشكل حصري تقريبا ـ في أوساط السود، وعدم الاستقرار الأسري لدى العرب ـ البربر المتسمين بمعدل كبير في نسب الطلاق، إضافة إلى التأخر الكبير في الزواج وانتشار العزوبية.

على الصعيد الديمغرافي سيميل ميزان القوة، في مستقبل قريب، لصالح الحراطين. وهؤلاء يجب، بالضرورة، أن يحموا بلدهم من جشع النظام الإقطاعي الهدام، المسؤول عن الرق والعنصرية؛ عبر اعتماد موقف سلمي والعمل ـ مهما كلفها الثمن ـ على تجنب أي صدام مع السلطة القبلية التي لا ترعى إلا ولا ذمة، ولم تحترم حرمة شهر رمضان عام 1989، وتعرض وجود موريتانيا ـ ذاته ـ للخطر.

إن مستقبل موريتانيا ـ إذن ـ سيكون كما يرسمه الحراطين. يمكنهم حتى تغيير اسم البلد من خلال تسميته ـ مثلا ـ الجمهورية الإسلامية الحرطانية. وبذلك سيضطر جميع الإقطاعيين المنحدرين من أحفاد الرسول، وأبناء الأمراء، وزعماء القبائل أو العائلات الكبرى، والنبلاء من العرب ـ البربر والزنوج الموريتانيين الإقطاعيين حتى النخاع ـ كل فيما يخصه ـ إلى إبراز جنسيه بالقول: “أنا حرطاني”،”أنا حرطانية”. وعندها ستختفي كل العقد.

 

 

العقيد المتقاعد عمر ابيبكر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى