كفنا استلابا فاختياراالسجل اللغوي لا يكون محايدا
ترتبط اللغة ارتباطا قويا بهوية الإنسان، في كل أشكالها وأبعادها ومستوياتها النفسية والسوسيو ثقافية والحضارية الشاملة ، فاللغة مكون أساسي من مكونات تميزالإنسان عن الآخرين، وتماثله مع من يشاركونه فيها، وهي الوعاء الحافظ لتاريخه وتراثه، وهي الرابط المتين الّذي يربط الفرد بأمته وأهله وأرضه .
أما الهوية فهي التي تفهم، سوسيولوجيًّا، على أنها نسق أو منظومة متكاملة من الخصائص والسمات المشتركة التي تميز أمة أوطن أو مجتمع معين عن غيره ، وتشكل جوهر وجوده وشخصيته المتميزة ، و العناصر التي يمكنها بلورة تلك الهوية كثيرة ، أهمها اشتراك الشعب في الأرض واللغة والحضارة والتاريخ والثقافة و الطموح ، لذا فإن الهوية هي إحساس متماسك بالذات ووحدة من المشاعر الداخلية التي تتمثل في الشعور بالاستمرارية والتمايز والوحدة والديمومة.
واللغة، في أي مجتمع، هي الواجهة الحاملة والحاضنة للملامح الأساسية لهذه الهوية، ومن خلال اللغة يتشكل معنى الانتصار والانكسار والمحبة والكراهية والألم والسرور، ومن منظورها تتحدد مفاهيم المباح والمحظور ، وانفتاح أبواب الفهم أو انغلاقه .
واعتمادا على اللغة تتكون رؤية شمولية للعالم تشمل الذات والآخر والواقع الطبيعي والاجتماعي ، كما أنه عن طريق اللغة يتم التواصل وتبادل المعلومات والأفكار والقيم والمبادئ والخبرات والمعتقدات والرموز، وتستخدم أساليب التفسير والتبرير وإنتاج وإعادة إنتاج المعاني والتصورات والمواقف والأحكام.. وإلى هذه المفاهيم الأولى ترتكز أية مفاهيم تالية يمكن للإنسان أن ينتفع بها من اللغات المكتسبة في مراحل لاحقة .
وعن طريق آليات التربية والإعداد الاجتماعي للأجيال الناشئة في فضاء ثقافي محدد ، يتم رفد الرصيد اللغوي بغية تشكيل نمط التفكير و الوعي و الوجدان والذاكرة الفردية والجماعية، فاللغة فكر ناطق، والتفكير لغة صامتة.
لذلك لا ينبغي الفصل بين الإنسان ولغته الأم مطلقا،لأن الكلمات لا تتيح قول كل شيء، ، لكنها تظل مشحونة بمجموع ما لا يمكـن قولـه، وهـو مجمـوع مقترن بها . وإذا كان بالفعل في اللغـة علامة اعتـراف اجتماعي بين أفراد الجماعة الواحدة ، فإنه يتعين علينا المضي أبعد من ذلك لفهم ما هو جوهري في هذه العلاقة القائمة بين الإنسـان ولغتـه ، فالقوالب اللغوية التي توضع فيها الأفكار، والصور الكلامية التي تصاغ فيها المشاعر والعواطف لا تنفصل مطلقا عن مضمونها الفكري والعاطفي .
وهذا ماعبرعنه بوضوح الفيلسوف الألماني هيدجر (ت 1889م) بقوله: “إن لغتي هي مسكني، هي موطني ومستقري، هي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها ومن خلال عيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الواسع”.
وفي المقابل فإن الاستلاب اللغوي والفكري يحرم الأمة من هذه العلاقة الحميمة القائمة أصلا بين الإنسان ولغته ، وقد بين مصطفى صادق الرافعي هذابقوله: “ما ذلت لغة شعب إلا ذل ، ولا انحطَّت إلا كان أمره في ذهاب وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا على الأمة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاما ثلاثةً في عمل واحد؛ أما الأول: فحبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا، وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محوا ونسيانا، وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع ” .
ويقول الدكتور طه حسين : ( إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة فحسب، بل في رجولتهم نقص كبير ومهين أيضاً ).
وينطبق هذا الوصف تماما على أغلبية نخبنا الذين تعلموا في عهد الإستعماروبداية الإستقلال ، حيث تم تجنيدهم لحماية وجود الفرنسية في موريتانيا وإقصاء اللغة العربية وكان من بين هؤلاء ليبراليون وعنصريون ويساريون من أتباع الفكر الشيوعي اللينيني والماوي إضافة إلى القوى التي كانت مستفيدة من الاستعمار وتحن لعودته .
ونتيجة لذلك أصبح جل المواطنين الموريتانيين مهمشين في وطنهم ، وتم استبعادعلماء المحاضرمن وظائف الدولة ، وفي نفس الوقت ينظر إليهم بازدراء من طرف الإدارة و القائمين عليها ،
لقد استهدفت السياسة الاستعمارية بوضوح استئصال اللغة العربية في سبيل عملية مزدوجة تتمثل في إقصائها بيداغوجيا والحط من شأنها ثقافيا. وقد كانت تلك النتيجة تبدو محققة غداة الاستقلال .
ورغم أن اللغة الفرنسية لم تعد هي اللغة الرسمية، فإنها ظلت مع ذلك سائدة حتى الآن في في كافة مراحل التعليم وفي القطاعات الإدارية والاقتصادية والمالية ومتستخدَمةُ في جميع وسائل الإعلام
ونظـرا للمواقع التي تحتلها هذه اللغة فقد تم الإعتراف بها لغة للترقية الاجتماعية بدونها يصعب على المرء أن يشق طريقه في المجتمع ، حتى أن بعض أنصار التعريب قد كونوا أبناءهم في مدارس فرنكوفونية اضطرارا .
وكان من نتائج تغول اللغة الفرنسية وغياب الحس الوطني والقومي لدى صناع القرارفي بلادنا، ومارافق ذلك من استلاب النخب المتنفذة وحتى فئات وشرائح عريضة من المجتمع، أن وجهت السياسات التربوية والثقافية والاجتماعية إلى اعتماد اللغة الفرنسية، بدل اللغة العربية في مجالات التعليم والتكوين، وكأن هذه اللغة الأجنية هي التي يمكنها أن تكون لغة علم ومعرفة وتكنولوجيا وثقافة كونية !!
وهذا على خلاف مايراه علماء التربية من أن المعارف التي يتلقاها الطفل بلغته الأم تكون أسهل تحصيلا وأعمق أثرا من المعارف التي تلقاها بلغة مازال في طور تعلمها، كما أن لغته الأصلية، تسود يوميا في الحياة العائلية والاجتماعية. وتظل في الميدان الدراسي لغة للتواصل بين التلاميذ والمدرسين .
وفضلا عن ذلك فإن النصوص المودعة في كتب تدريس اللغة، أي لغة لن تكون محايدة فهي مشحونة بمعارف حضارة تلك اللغة، لذلك لا يخلو نص عربي مثلا من ذكر لحديث شريف، نصا أو روحا، أو حكم وفوائد جمة أخرى ، سيما أن اللغةُ العربية ذات ميزات عديدة، فهي أوسع اللغات وأصلحها ، ولها جذور متناسقة لا تجد لها مثيلا في اللغات الأخرى ،مع أن البيان الكامل لا يحصل إلا بها لقوله تعالى ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ فدل ذلك على أن سائر اللغات دونها في البيان.
وفوق ذلك لابد من النظرإلى أهمية اللغة العربية لكونها لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. وبذلك تُعد مفتاح الأصلين العظيمين؛ الكتاب والسنة فهي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى أسرارهما، وفهم دقائقهما، ولهذا السبب عني السلف بعلوم اللغة العربية، وحث على تعلمها، والنهل من عبابها.
يقول أمير المومنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه ـ : “تعلموا العربيةَ فإنها من دينكم “، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ” فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب،.. وأن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدينِ تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدرِ هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق”.
وخلافا لذلك فإن الجهل باللغة العربية من أسباب الزيغ والضلال لذلك يعتبربعض العلماء الموريتانيون أن تفشي ظاهرة الإلحاد مؤخرا في بلادنا قد يكون مردها أساسا هوالجهل باللغة العربية ، والإقتداء بشخصيات ملحدة ، والركون إلى ثقافات فجة ورخيصة ،أملتها لغات أجنبية لها باع طويل في محاربة ديننا الإسلامي الحنيف ولغته الخالدة .
باباه ولد التراد