كلّ رجال الرئيس: من الدولة الشاريّة إلى الدولة البائعة/عباس ابراهام
عزيز. يُقالُ الآن إنه متفرِّدٌ من الطينة القديمة؛ وأنه، بعدَ الاستقرار السياسي النسبي، لم يتطوّرْ من نموذج داديس كمرا، الذي كانَه، إلاّ إلى نموذج يحيى جامي الذي يكونُه. ولكنه، على استفرادِه بالحكم، لم يصل إليه بمفرده. كان، أيام كانَ في الظِّل، وكأي بيروقراطي طائعي، صاحبَ علاقاتٍ متداخلة، وكان، على غير ما يريد الاعتراف به، يحكُّ أكتافه مع أكتافِ الطبقة الحاكمة، وخصوصاً رجالَ أعمالِها.
وكما يحدُث في أي قصة صعودِ أغنياء جدد فقد قفزت معه إلى الواجهة دائرة معارفه الخاصة. يبدو من الوثائق المتسرِّبة لاحقاً أن الكولونيل عزيز أعطى في فترته الانتقالية وقتاً للزبونية. وفي 2005-2008 لم يكن الكثيرون يعرفون طبيعة الأشخاص الذين استفادوا من صفقات التوريد والفواتير السخيّة التي أعطتها لهم “كتيبة أمن الحرس الرئاسي” التي كان يُقودُها. ولكن علاقتهم اليوم به واضحة: كانوا وزيره الأول اللاحق؛ كانوا شريكه ورفيقه السياسي-التجاري، ولاحقاً رئيس مجلس شيوخه، وبالتالي نائبه، (في غياب نائب رئيس دستوري دائم)؛ وكانوا حليفه الأعمالي حتى اختصامَه معه في 2012. لقد قضَى وِلايتَه على “الأمن الرئاسي” وهو يُنمّي زبناءه وأعماله.
-2-
طبعاً لم تقتصِر القائمة على هذا الثالوث. ورغمَ ما يُقالُ عن انعزال الجنرال عزيز وتقنفُدِه إلاّ أن شبكته الصداقيّة أوسع من أن تُستَنضَب بسرعة. وسرعان ما صارت لها مترتبات ماليّة واستثرائية لمّا وصل للحكم. وقد حدّثت هنا قصص قارونيّة من ألفِ ليلة وليلة. على العموم كان هنالك شاب الكازينو، والعقيد البحري، الذي، كما تُبلِغنا مجلة “فورين بوليسي”، جعله الجنرال عزيز ثاني أغنى رجل في البلاد. كان ثمة رئيس مجلس الشيوخ، الذي أعطته الدولة حقّ إجارة وحماية وتموين الشركات الدولية. وكان بالجوار النائب التيشيتي، الفائز بأكثر صفقات التراضي، المشتهر أيضاً بالمُضارِبة بأعلاف المواشي. ولم يكن بعيداً المخابزي المُقاوِل الذي أسدى له بالتراضي صفقات سجن ألاك، وشيّخّهُ على مقاطعة لكصر. كان هنالك بائع قِطع الغيار، الذي بالصدفة أيضاً هو صديق الجنرال، والذي تحوّل بسرعة إلى مالك أكبر سلسلة تجارية في البلد. السبب: صارَ مورِّداً لكلِّ الإدارات الحكومية المُتاحة. وقد تنعّمَ لوهلة بطاقيّة الإخفاء وبالنجاةِ من المتابعة الصحافيّة إلى أن مثّل الجنرال عزيز في عرس ابنه، البذخي الشهير. بعدها انتبهت الأعين لكون الدولة باعته شواطئَها في نواذيبو، ولكونه واجهة أعمال الجنرال عزيز والمُشرِفَ على مزرعتِه المثيرة للجدل. كانَ ثمّة صديقٌ آخر للجنرال وُصفَ بـ”مهربِ الأرز” في أواخر العهد الطائعي ثمّ صارَ فجأة، مع تقلبِ المُلْك، مساهماً رئيسياً في مصرف كبير ومديراً لشركة محروقات صاعدة وإحدى كبريات شركات الإسمنت. كان هنالك شخصٌ آخر وُصِف أيضاً بـ”مهرِّب السيارات” في بدء مشواره (أي قُبيل سنوات)؛ وفجأة صارَ مالك شركة مهمة (عند الدولة) للسيارات؛ وبدورِها صارت هذه الشركة أكبر مورِّد للجيش. كان هنالك بيطري صارَ فجأة مساهِماً أساسياً مهماً في بنك واعد وأهم مورِّدٍ للأعلاف والأدوية وأصبح بعد تبرلُمه منافساً على صفقة بأربعة مليارات أوقية. هذه الدّائرة هي فقط للتندر لا للاستنفاد. هي للاستنتاج؛ لا للاستقراء. مجرد غيض من فيض.
-3-
ظاهرِياً تبدو ملاحم تقلُّبات المتوسطين، وأحياناً المساكين، هذه إلى أباطرة قِصص الجدات ومبالغات “العوام”. ولكن الحقيقة أنّها ليست إلاّ الجانب التندري والشعبي من تحولات “واقعية” أعمق تتعلّق بتنوُّع وتطور الدولة الرّيْعِية. على أيام ولد الطايع كانت الدولة تشتري الخدمات من الموّردين كجزء من شراء الشرعية السياسية من رجال القبائل والعشائر أو ممن يُرشِحُّه هؤلاء أو تفرضه السلطة لينوب عنهم. كانت الدّولة تشتري المكانة السياسية عندما تكتري الرّيع مؤقتاً لبارونات القبائل لتقوية أجنحتهم السياسية وتشريع الحكومة. باختصار كانت الطائعية تسمحُ لزبائنها بتحقيق أرباح في المبايعة معها مقابل ولائهم السياسي. ومع تطوُّر الطائعية وظهور امتداد اجتماعي غير بيروقراطي لـ”الدولة” خلقت تمددات ريعية جديدة للنفاذ إلى المجموعات المدنية المتحررة من الاقطاع والعشائرية وأصبحت تُحوِّلُ أنصارَها وذويهم إلى مُوَرِّدين وشركات تشتري من عندهم الخدمات والتموين.
أما في عهد الجنرال عزيز فإن الدولة لم تعد أساساً دولة تشتري؛ وإنّما دولة تبيع (وإن ظلّت تشتري طبعاً). صارت تبيع بنية الرّيْعِ نفسها، وليس فقط منافعه الوقتية. ولم يعد مقصدها رجال السياسة والشرعية الشعبية (فقيمة هؤلاء تزيد بالديمقراطية التنافسيّة، التي قضى عليها النظام)، بل رجالَ الأعمال والزبناء. وأصبحت تبيع خدماتها ورُخصها وأوقافَها لأصدِقاء النظام ورأس المالي الأجنبي. كانت “الدولة المُشترية” تُوّسِّعُ نفسها بزبنائِها؛ أما “الدولة البائعة” فكانت تُملِّكُ نفسها لزبنائِها. كانت الأولى تخصف على نفسها من زبنائها؛ أما الأخيرة فكانت تذوب وتتحلّلُ في هؤلاء الزبناء. باختصار، لم تعد الدولة تشتري المكانة بتحويل أنصارِها إلى رجال أعمال؛ بل أصبحت تحوِّلُ رجال أعمالِها وخاصّتِها إلى دولة.
-4-
لنأخذ أمثلة سريعة. كان ولد الشّيكِر رجلَ أعمالٍ مُحترف ونافذ. وبعكسِ بقيّة الزبناء فلم يكن محبوساً قبلَ 2008 في دليل هاتف الجنرال عزيز. بعكسهم كان له عنوان وكان السوق يعرِفه. وكانت له، كأي رجل أعمال شريف، مكاسبه وإخفاقاته. ولكنه بدءً من 2012 صارَ شيئاً آخر. في ظِلِّ تقلبات الدولة الرّيعيّة باعت له الدّولة فجأة أهمّ وظائفِها، بل وباعته تعريفّها كدولة. تُعرّفُ الدّولة عادةً إما أنّها مُحتكِرةُ العنف أو مُحتكِرةُ الضرائب. ابتداءً من 2012 لم تعُد “الدّولة البائعة” تحتكِرُ الضرائب. باعَتها للمولى الشيكر. اشترى الجباية وصار مزارعاً ضرائبياً (Tax farmer). صار يُحقِّقُ أرباحاً من كُلِّ لافتة عموميّة. وفجأة انتقلت الضرائب على اللافتات من 12000 أوقية إلى 400000 أوقية سنوياً على بعضِ المحلات. ومقابل 600 مليون أوقيّة يسديها للسلطات البلدية صارَ له الحقُّ في جباية أربعة مليارات أوقية (وباستخدام الطاقم البشري للدولة أحياناً). تُبرّرُ عادة زيادة الضرائب بإنفاق الدولة الاجتماعي (وإلاّ فهي مجرد مكوس ومغارم وإتاوات)؛ أما هذه فحالة نادرة من زيادة الضرائب على المواطن بسبب الخصخصة. وكان تسديد الضرائب للشيكَر صارماً بحيثُ أنّ شركاتٍ أُغلِقت لعدم التسديد له. فقط مع 2015 تمّ التخلُّص من هذا المثال بعينه، دون الشكل بعمومه من، بيع الأموال.
-5-
مثالٌ آخر: كانَ الكولونيل الشيخ ولد باية مُراقِباً بحرياً مُتواضعاً يناضِلُ من أجل كفاف يومه؛ ولكنه كان يملك رأس مالٍ واعد: صداقته للجنرال عزيز. مع 2008 بدأت هذه البذرة تتفتّقُ عندما أقطعَه الجنرال عزيز، ودافع عن، حقّه في خصخصة الجباية الضريبيّة. أصبحَ ولد باية، الذي سيُعرَفُ بعدها في الإعلام الاجتماعي بـ”عروس البحر”، يستخدِمُ قانوناً بحرياً ضريبياً (هو القانون الضريبي الوحيد القاسي على المؤسسات الاستثمارية بالبلد) للبطر الشخصي. وتماماً كما في قضيّة ولد الشيكَر صار إقطاعيّ ضرائب، وصارت نصف العائدات الضريبية مُلك شخصي وووقفٌ له. أصبحَ يتقاضى 48٪ (أوضح الجنرال عزيز مشكوراً أنّها كانت أولاً 60٪) من العائدات الضريبية والجزائية على الخروقات الصيدية، معيداً للخزينة فقط 52٪ أو 40٪. هذه المعلومات قدّمها لنا العقيد باية نفسه، مُحيلاً إلى تقاضيه ثلاثة إلى أربعة مليارات أوقية سنوياً، شارِحاً من بلاغته الشخصية أنّه “امتلأ من المال”. وقد أكدّت “فورين بوليسي” هذا الثراء السريع باعتبارها أن العقيد ولد باية صار في هذا الوقت الوجيز “ثانيّ أغنى رجل في موريتانيا”. وحتى في أوساطِ أنصارِ النِّظام، المعروفة بالخنوع والرِّضا، بل والتّبرير، لا يُخفي البعض امتعاضَه من هذا الثراء الفاحش. ويعود للقاسم ولد بلاّلي شرف الاحتجاج من الدّاخل على إمبراطورية ولد باية الزبونية، عندما قرعَ ناقوس الخطر في مطلع 2015 شارِحاً بأن ولد باية هو “المسؤول عن فساد قِطاع الصيد” ومُظهراً أنّه هو في الحقيقة وزيرَ الصيد الفعلي منذ 2008 الذي يستخدم ماله مافيوياً.
-6-
ومثال إضافي: في 2012 باعت “الدولة البائِعة” حقّ تصفية الديون لصديقٍ للجنرال عزيز. ومرّةً أخرى تراجعت “الدولة البائعة” من تعريفٍ سيادي لها. تراجعت من مجال تطبيق العدالة في مجال استدرار الديون، الذي أصبحَ يقع في عهدة شركة خاصة. منذ فترة لم يعد قضاء الدولة طرفاً مُسيطِراً بموضوعية على حلّ المشاكل والمخاصمات التجارية، فهذا المجال انتزعته الرشاوي منذ فترة، والآن أكملت شركة تصفية الديون الضربة باحتكار البت في أقضية الديون. وكانت القبائل تحلّ جانباً من المخاصمات؛ والآن انتزعت الشركات الجانب الآخر؛ واستقالت الدولة. وزاد من أرباح “شركة تصفية الديون” أن الحكومة أصبحت تُبعِد الاحتكام إلى الدولة في الديون عن طريق عُرف وقانون سجن الدائن والمديون في المعاملات الديونيّة المعروفة شعبياً بـ”شبيكو”. وهكذا صارت شركات “تصفية الديون” مرجعاً قضائياً بعيداً عن القوانين “السيادية” للدولة.
-7-
سرعان ما حقّقَت الشبكة الصداقية-الزبونية للجنرال عزيز رأس مالٍ أمكنها به ابتياع مناصب سياسيّة. وهكذا تحوّلت من رجال أعمال إلى رجال سياسة؛ واختلطَ الدّم باللّبن. كان الجنرال عزيز في فترة استتارِه بكتيبة الحرس الرئاسي قد صنَع من بعضِ زبنائه أعضاء مجلس شيوخ ونواباً. وهكذا أوصل من الكواليس كلاًّ من محسن ولد الحاج وبوي أحمد ولد اشريف أحمد لمجلس الشيوخ وللبرلمان في 2006. نعرِفُ الآن أنه كان يتعامل مع الأول في صفقاتِ كتيبة الحرس الرئاسي. أما الأخير فقد أعطاه صفقة بخمسة مليارات أوقية في 2010 لتجهيز “المركز الوطني للأنكلوجيا”، وأدخله في حيّز صفقة بأربع مليارات في 2015.
واستخدم الجنرال عزيز مشروع “تجديد الطبقة السياسيّة” لاستبدال السياسيين برجال الأعمال. وفي 2014 أوصل الجنرال عزيز كثيراً من زبنائه الأعماليين إلى البرلمان ومجلس الشيوخ. صار أبو بكر ولد غدور، صديقه المستفيد من صفقة “سجن آلاك” الشهيرة، عضواً بمجلس الشيوخ في 2014. وصارَ محمد الإمام ولد أُبَنَّه، الذي جعله الجنرال عزيز مصرفياً وتايكوناً في الأدوية البشرية والأعلاف، نائباً برلمانياً على مقاطعة لم يكن حتى مسجلاً بها انتخابياً. ويظهرُ، طبعاً، أحياناً لتثمينِ الميزانية المقدّمة حكومياً. وتسلَّق الإمبراطور الشيخ ولد باية بلدية ازويرات، مستخدماً ماله القاروني في الانتخابات. ثم صار رئيساً للعمد الموريتانيين. ومن هنالك استغل هذا ليكون نائباً لرئيس “منظمة المدن والحكومات الإفريقيّة“. وصار رجل أعمال آخر مثير للغو هو سيدِ محمد ولد أبوه برلمانياً دون أن يتوقّفَ عن ربح صفقات الخصخصة. وقد دخل أفيل ولد اللهاه المعترك الإنتخابي بقوة، مُنجِّحاً مرشحه الانتخابي، أخاه سيدِ بابَ ولد اللّهاه، في ودان.
ورغم اندحار محسن ولد الحاج وفريقه أمام ثورة انتخابية شعبية قادها سيدي جارا بروصو في نوفمبر 2013 إلاّ أنّه حافظ على منصبه سيناتورا (بتمديد مأموريته في مجلس الشيوخ إلى تسع سنوات)، بل وصارَ رئيس مجلس الشيوخ (ضارباً بالتفاهم المحاصصي التاريخي الذي كان يُسدي المنصب للهالبولار)؛ وبقي رجل المهمات الصعبة للنظام، ومُمثِّله الحقيقي في الكواليس ومنتدبَه للجلسات التمهيدية لما يُسمّى بـ”الحوار”. وهو دورٌ كان يلعبه منذ انتدابِ الجنرال عزيز له للحوار مع القبائل و”النواب المغاضبين” لتعبئتِهم في 2008 قُبيل انقلابه العسكري. وظلّ يقوم به لاحقاً، وخصوصاً في 2011 عندما ابتُعِثَ للتفاوض مع الحقوقيين المُضربين. لقد خلقت “الدّولة البائعة” مجتمعاً “سياسياً” من رجال أعمال نشأوا خارِجَ مجال السياسة، غير قادرين على القراءة والكتابة، ولا يعرفون الشعب.
-8-
جُزءٌ أساسيٌ من “الدولة البائعة” هو العودة إلى الخصخصة التي بدأها نظام ولد الطايع في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات. وفي الحقيقة فإنه، بعكس ما هو ذائع، فإن نظام ولد الطايع الذي فتحَ الباب للخصخصة الكارثيّة في الفترة ما بين 1985-1993 وباعَ الشركات العامة لزبنائه كـ”الشركة الوطنية لتسويق الأسماك” (SMCP) و”الشركة الوطنية للتأمين وإعادة التأمين” (SMAR) و”شركة الصناعات المعدنية” (ساميا) وخصخصَ االمطاحن والمخازن التابعة لشركة “صونادير، توّقّفَ فجأة وبدأ في التراجع عن الخصخصة؛ فخلق مؤسسات دولتيّة جديدة كـ”الشركة الوطنية للإستصلاح الزراعي” (سنات) وشركة لتصنيع السكر ومشتقاته و”موريتيل”؛ وسمح للشركات المملوكة من قِبل الدولة كـ”الشركة الوطنية للمعادن والمناجم” (سنيم) أن تُنوِّعَ مصادِرها بالاستثمارِ في الرياضة والمقاولة والتأمين وأن تشتري أسهماً من شركات وطنية غيرها؛ وسمح، مثلاً، لـ”ميناء نواكشوط” بأن يشتريّ أسهماً من “الإذاعة” و”التلفزيون”. وهكذا بفعل هذا التراجع عن الخصخصة أمكن إبقاء يدِ الدولة على شركاتٍ ظلّت تعودُ للميزانية بحوالي 50% إلى 16٪ من عمومِها.
مع عودة “الدولة البائعة” في مرحلتِها العزيزية يتم التراجع عن إبقاء مؤسسات الدولة، إما عن طريق خصخصة وتجزئة وتقسيط خدماتِها وفروعِها، أو تغليب المنطق البيوعي على المنطق السيادي لها، أو بخصخصتِها كُليَة. وإذا كانت الشركات الأساسية للدولة الموريتانية هي “سنيم” و”موريتل” و”سونيمكس” و”سوماغاز” (الشركة الموريتانية للغاز) إضافة إلى شركتَيْ الماء والكهرباء، “صوملك” والشركة الوطنية للماء، فإن كلّ هذه الشركات اليوم هي، بطريقة أو بأخرى، في مهبِّ الخصخصة. كانت “الشركة الوطنية للمياه” قد بدأت بالفعل، وإن بشكل غير رسمي بخصخصة بيع الماء في اكتوبر 2014 في كيفة عن طريق خصخصة الآبار وبيعها للشركات الأجنبية والمنظمات الخيرية وحتى البلديات وتجار الماء الذين يبيعونه من ثمّ لمن يدفع أكثر. أما شركة الكهرباء فقد أثرّت أساليب “الدولة البائعة” على مهمتها السيادية عندما أصبَحت تولي تصدير الكهرباء وبيعها للسنغال ومالي أولوية على تعميم الكهرباء أو الحفاظ عليها في مناطِقِ الخدمة الكهربائية بموريتانيا. وفيما يشكو الموريتايون من تقطُّعٍ مستمرٍ للكهرباء فإن “الدولة البائعة” تحرص على عدم وجود شكاوي من خدماتها خارج التراب الوطني، بل وتفضيل خدماتها خارج البلاد على خدماتها داخلها. وتسودُ هذه الأنماط من الخصخصة في معظم اقتصاديات الدولة. فبتاريخ أبريل من 2013 أصدرت الحكومة الموريتانية قانوناً لخصخصة قطاع المحروقات، متخليّة عن توزيع وتسيير والتموين بالمحروقات. ومع مطلع 2014 بدأت الحكومة الموريتانية خصخصة الآليات الزراعية التي كانت تُساعِدُ بها المزارعين المحتاجين كجزء من الإستصلاح الزراعي، وبدأت بيعها لهم وحرمانَهم من استخدامها بدون أجرة.
وليست بقية مؤسسات الدولة الأخرى أحسن حظاً؛ بل يتعرضُ بعضها لخطر الخصخصة الكُلية وليس فقط خصخصة بعض خدماته. فبتاريخ سبتمبر 2013 أعلنت الحكومة الموريتانية، في رسالة مناقصة، عن عرض شركة “سوماغاز” للبيع، وألّحت موريتانيا على ضرورة بيع الشركة. ورغم إخفاق جهود بيع “سوماغاز” بعد عامٍ من عرضها للبيع إلاّ أن العرض أو عرض بيع بعضِ أسهمِها ما زال سارياً. وفي غضون ذلك يتِّمُ فرض نظامِ تقشُّفٍ عليها تُنزعُ بموجبه التغطية الصحية عن عمالها ويُشرعُ في تسريحهم. ولا يندرُ في الإعلام الموريتاني اليومي فتح إمكانية بيع شركة “سنيم”، الشركة الأكثر نفعاً على الخزينة العامة. وهو ما فتحَ نقاشاً وطنياً في مارس 2015. ومهما يكن من أمرٍ فإن الخصخصة الجزئية لـ”سنيم” قد بدأت بالفعل من خلال بيعِها لشركاتِها الفرعية كشركة “جي أم أم” المُنشأة في 1988، المملوكة غالباً من قِبَل الدولة، وليس المساهمين الخصوصيين، والتي بيعَت بصمت في أكتوبر 2015. وكانت ممارسات شبيهة قد أدّت في 2012 إلى بيع “حي اسنيم” وهو ممتلك عقاري ومصدر دخل لـ”سنيم”، لشركة “تازيات”. وفي اكتوبر 2015 خصخصت شركة “سنيم” فرعاً لإنتاج الغرانيت كان لها بنواذيبو. وتذيع معلومات عن نية “الدولة البائعة” خصخصة “شركة التضامن للتأمين” التابعة هي الأخرى لـ”سنيم”، والتي انتزعتها منها الدولة الموريتانية في أكتوبر الحالي ربما تمهيداً لخصخصتِها.
-9-
واضِحٌ ممّا سبق أن “الدولة البائعة” تقوم بدفعِ الشركات الوطنية الكبرى إلى وضعية إفلاس عن طريق منعها من تنويع مصادر دخلها أو اقتطاع شركاتِها الفرعية. ويتغافل “البنك الدولي”، سعادةً منه بهذه الوضعية، عن هذا الإفشال المتعمّد لمؤسسات الدولة، معتبراً أنّه دليلٌ موضوعيٌ على عدم نجاعة اقتصاد الدولة، وليس استثراءً واقتتاتاً من مجموعة رجال أعمال ذوي امتيازات زبونيّة على جسم الدولة وخدماتها العامة. أما محلياً فلم يغب هذا الإفشال الممنهج للدولة عن الأصوات الميدانيّة. ولم يستبعِد حزب “التكتل” في مارس 2015 أيام أزمة “سنيم” العمالية أن الحكومة خلقت الأزمة لتشريع بيع الشركة الكبرى بالبلاد. وكان حزب “اتحاد قوى التقدّم” كان قد نبّه إلى أنماطٍ أخرى من الاحتيال العام لصالح الخصخصة هي جعل شركات الدولة تقترِضُ من المال الخصوصي، ذي الفوائد الكبيرة من قِبَلِ رجال الأعمال الكبار فتُصبِحَ رهينة لهم. ومع 2011 كانت كُبريات الشركات الوطنية كـ”الشركة الوطنية للمياه” (صوملك) و”سوماغاز” نفسها ترزح تحت مديونة التايكونات الكبار. وهكذا عُرضت الأخيرة للبيع. وفي مايو 2013 ظهرَ أن شركة “سنيم” تدين بحوالي ستة مليارات لرجل الأعمال محمد ولد بوعماتو عندما أعلِنَ عن تسديدها هذه الدفعة.
-10-
تبيع “الدولة البائعة” كلّ شيء. وإذا احتاجت لبعضِ النقد فيمكنها تسويق الأعلاف الفاسدة عن طريق فرضِ شرائِها على المُنمين . ويمكنُها حتى أن تأخُذ قطعان الأغنام لحظة العيد وتبيعها في السنغال. بل ويُمكِنُها أن تبيع ضيفاً وحليفاً حلّ بأرضِها عندما يُصبِحُ مطلوباً كما كان حالُ السنونسي مثلاً. ولا تعدم “الدولة البائعة” فرصة الحرب لتبيع فيها الجنود للخليج العربي ليُحارِب بهم في اليمن. بيدَ أنّ هذه مُحصِّلاتُ دنانير. أما أهمَ بيوعات “الدولة” فهي ممتلكاتُها العقارية. وفي اكتوبر 2015 قرّرت “الدولة البائعة” الانتقال إلى مرحلة ثانية من خصخصة “مركز المدينة”، وهو جدلاً أهم مُمتلك عقاري سكني بيِدِ الدولة، وذلك بعدَ المرحلة الأولى التي باعت فيها المركبات السكنية (بلوكات) لأصدقاء النظام في 2011 بحجة عدم مدانتها وعتاقتِها (باختصار بحجة فقرها)، متخذة في ذلك نمط برجزة المدانة (gentrification). شمِلت المرحلة الجديدة بيع المدارس الابتدائية التاريخية في العاصمة. ومرةً أخرى باعت الدولة سيادتها ذلك أن هذه المدارِس، “المدرسة 1″ و”المدرسة 2” و”المدرسة 6″، كانت المدارس الأولى بالعاصمة وقد خرّجت الأجيال الوطنية الأولى وصارت معلماً مُتحفياً وتُراثاً وطنياً؛ وخلقت جيلاً نواكشوطياً في بلدٍ تريد الهوية الجهوية الإنتجاعية فيه رفض هوية العاصمة باعتبارها متقلقلة وغير ثابتة. وقالت “الدولة البائعة” إن سبَب بيع المدارس هو وقوعُها في منطقة طُرق تُعرِّضُ الأطفال للخطر، رغم أن الدولة الموريتانية تفهم، كمعظم الدول، إجراءات تأمين المدارس الابتدائية من السيارات وتضع بمهنية واحترافية حواجز إبطاء السيارات أمام المدارس الابتدائية (شرط أن تكون مدارس فرنسية أو خصوصيّة في أحياء غنيّة).
-11-
لم تكتفِ “الدّولة البائعة” ببيع ممتلكاتِها، بل قامت بخصخصة خدماتِها. وإذا كانت الدولة هي بالتعريف من يحتكرُ الحماية فإن الدولة الموريتانية لم تعد تحتكرُ هذا منذ إصدار دولة الانقلابي محمد ولد عبد العزيز في أبريل 2009 القانون 2009/025 المُرتِّب للحراسة ونقل الأموال والرِّقابة، الذي غيّر قانون 1966 الذي يربطُ الأمن بالدولة ويحتكِرُه لها. وبفعل هذا القانون باع الجنرال لشركة “الأمن الخصوصي”، التي يُديرُها العقيد الطائعي سيدِ ولد الريحة، حقّ الحماية العامة. وليست المشكلة هنا هي أن الدولة تُرخِّصُ لشركات حماية خصوصية، بل إن هذه الشركات أصبحت هي من يتوّلى حماية الدولة نفسها، مُقصِيةً موظفي الدولة لتؤدي وظائفهم بتكلفة أقلّ وبلا ضمانات اجتماعية مع ربح الفائض، وليس توفيره.
إن شركة “الموريتانية للأمن الخصوصي” هي أكبر المستفيدين من خصخصة الأمن. ففي ظلِّ خفضِ ميزانية الشرطة أصبحت هي من يقوم بحراسة مرافق الدولة حيث يحمي حرسها جلّ بنايات الدولة بما فيها “البنك المركزي” و”سنيم” و”ميناء الصداقة” و”المطبعة الوطنية” و”الإذاعة” و”التلفزيون” و”الوكالة الموريتانية للأنباء” و”سوماغاز” و”سلطة التنظيم” و”المطاحن الكبرى”. ورغم اعتراض السفارات الغربية والعربية في 2012 على استبدال حراستِها بالشرطة الموريتانية وخصخصة هذه الحراسة لصالح شركات الأمن الخصوصي، وهو ما يُخالِفُ اتفاقية جنيف، بسبب استخدام هذه الشركات للمتقاعدين، إلا أنّه يبدو أن السفارات رَضخت لحراستها من قبل “الموريتانية للأمن الخصوصي”. وبطبيعة الحال تقوم شركات الأمن الخصوصي بحراسة المرافق العامة بتكلفة أقلّ وبأجور أقّل، وهو ما سبّبَ صراعاً قوياً بينها وبين عمالِها، انتهى باتفاق مُجحِف بالعمال في أواخر 2014. كما أنّها ليست ملزمة بمعاشات أو ضمانات صحية أو تقاعد لعمالِها. وهكذا يتم تخريج عمالِ القطاع الأمني من الطبقة الوسطى، وإعاشتِهم في الكفاف والمجال العقدوي، مع جعل رأس المال يُراكِم فارق الأرباح. وليس صدفة أن العقيدان ولد الريحة وولد باية، المنتفعان من هذه الخصخصة كانا رأسي الحربة في قمع المطالب العمالية في نفمبر 2014. هذه هي النيوليبرالية في أحسن أشكالِها.
-12-
يقوم جزءٌ أساسيٌ من ممارسات “الدولة البائعة” على اقتطاع واجهات الممتلكات العامة للدولة، المُطلّة على الشوارِع الاستراتيجية والاستهلاكيّة وبيعِها لزبائن النظام. ولا يخفى على المتابِع ما في هذا من بيعٍ لسيادة الدولة، إذ تتم سوْقَنَة الدولة وإخفاءها عن الأعين بجعلها تقبع في ظهر رأس المال، الذي يأخذُ مكانتها في نظرة المواطن. وبينما لا تبدو فكرة إلحاق جانب تجاري بالمرافق العامة، شريطة أن يكون جزءً من تنويع مداخلِها واستقلالها و، بالخصوص، أن تعودَ مداخيله لها، مسألة غريبة جذرياً على الملكية العامة، إلاّ أن ما تفعله “الدولة البائعة” هنا لا يتعلّقُ بإمداد الهيئات العامة بمصدر دخل، بل ببيعِ واجِهاتِها إلى الأبد واقتطاعِ مساحتِها وإلزامِها التقشّف. لقد مورِسَ هذا النمط البيوعي أولاً، وبصمتٍ، على الملعب الأولومبي ثم مدرسة الشرطة ثم في اقتطاع 48 قطعة أرضية عمومية في “شارِع المختار ولد داداه” في سبتمبر 2012 ومقر الدرك الوطني في قلب العاصمة هذا إضافة إلى خصخصة الشواطئ بنواذيبو ونواكشوط. ويتكهّنُ الكثيرون أن قائمة مدارس أخرى ومبانٍ بقلب العاصمة في الطريق للخصخصة.
-13-
بتاريخ يونيو 2012 أطلقت “الدولة البائعة” مشروع تشجيع استثمار يهدِفُ إلى خلقِ منطقة حرة في نواذيبو. وكان هذا فرصة لإعادة تنظيم الضرائب، وزيادتها على المواطن العادي، وتخفيضها عن الشركات ونزع الحماية عن تشغيل المواطنين الموريتانيين، مع جعل الدولة تتحمل كلفة البنى التحتيّة للاستثمار. أُطلِقَ مع هذا المشروع قانون استثمار يُخفِّضُ الضريبة على الشركات إلى 20٪ (ويجعلها معدومة بالنسبة لـ”المنطقة الحرة” لسنوات) بينما تزيد على الأفراد متوسطي الدخل (25٪). يسمحُ هذا النظام بدخول رأس المال ومغادرته بلا جزاء (بعكس قوانين الاستثمار السابقة التي تُلزِمُ الاستثمار بالتعويض عن انسحابه من جهة واحدة). وبعكس قوانين الاستثمار السابقة فإن قانون الاستثمار في 2012 ألغى شرط “مورتَنةِ الوظائف” (إلا الوظائف الأمنية والصّيدِية). ورغم إصدار “منطقة نواذيبو الحرة” لثلاثمائة رخصة صيد وسياحة إلاّ أنّ هذه الرُّخص بلا عائدات ضريبية، فالشركات الاستثمارية معفية من الضرائب (بما فيها الضرائب الشخصية كالضمان الاجتماعي وضرائب التقاعد)، إذا استثمرت ما هو فوق 1٫6 مليون دولار وخلقت 50 فرصة عمل. عموماً لا تدفعُ الشركات الاستثمارية ضرائب على الرخص أو الملكية أو الأرض أو حتى على الأرباح في مدة السنوات الخمسة الأولى (ويمكنها الذهاب وقتما تشاء، بلا جزاء). لا تدفع إلاّ الضرائب البلدية. لقد باعت “الدولة” الضرائب لرجال أعمالِها عن طريق تقاسمها معهم أو باعتها للمستثمر الخصوصي عن طريق رفعِها عنه. كلّ هذا مع زيادتها على المواطن المتوسط.
-14-
للمفارقة فإن الجنرال عزيز وصلَ للحكم وسط استياء شعبي من تخلي الدولة عن ممتلكاتِها العامة. فقد أثار قرار تصفية “الخطوط الجوية الموريتانية” في 2007 استياءً كبيراً. ورغم بطلان المعلومات عن خصخصة “سنيم” التي أُذيعت في 2007، والتي ما زال المدير الحالي لـ”سنيم” يُكرِّرُها باستمرار، إلاّ أن أثرَها، والنقاش الوطني الذي خلقته، ولّدَ استياءً كبيراً، وُظِّفَ ضدّ شرعية الرئيس المُنتخب في 2007. وبعد انقلاب الجنرال عزيز في 2008 بدا لوهلة أنّه يُحيي الدولتية. فقد بعثَ “الخطوط الجوية الموريتانية” برأسمال “وطني” (لصالح زبون خصوصي) ووسَع النقل الحضري وأعطى دوراً لـ”الشركة الوطنيّة لصيانة الطرق” (أنير)، رغم الفساد المعلوم بها منذ 2009. بيْدَ أنّه سرعان ما عاد لطاولة القمار. وتدُلُّ دراسة “البنك الدولي” الصادرة في يونيو 2013 أنه بعد خمس سنوات من حكم الجنرال عزيز فإن شركتين فقط من شركات الدولة الموريتانية لا تُعاني من أزمة مالية مُستنزِفة لها أو للخزينة العامة. وقد صدر هذا التقرير قبل الأزمة الماليّة الحالية لشركة سنيم. إذاً، فقط شركة “موريتل”، وهي شركة مساهمة، لا تُعاني من أزمة مالية بفعل خصخصة وشبه خصخصات الجنرال عزيز. أما شركة “أنير” فقد سُحبت منها سلطة المقاولات التي أُعطيت لها بادئ ذي بدء. ومثلها مثل “سونمكس” و”سوماغاز” فقد فُرِضَت عليها مُعاملات مُحابيّة لأصدِقاء الجنرال عزيز ومُدمِّرة للشركة.
-15-
مع تحوّل الدولة البائعة إلى دولة تكديس المال (إذ هي دولة بلا نفقات اجتماعية) أمكنها استخدام وفرتها النقدية في اقتصاد المضاربات والتجارة النقدية، وهكذا بدأت سياسة بيع الرخص المصرفية من أجل بيع إيداعاتها لدى المصارف، التي تضارب بأموال المودِعين، في تجارتها الخاصة. وهكذا تتقاسم فائض القيمة مع الدولة، التي تقوم في المقابل ببيع حق الصرافة لنفس البنوك. ورغم أن هذه المعاملات المشبوهة أدّت إلى أزمة بنكية في البلد في منتصف العام الحالي إلاّ أنّ طبقة “رجال الأعمال الجدد” التي أشرنا إليها في مطلع هذا المقال هي طبقة وُلِدت غالباً من الطفرة المصرفية لـ”الدولة البائعة”. وقد أصدر الجنرال عزيز أكثر من خمسين رخصة بنكية في خمس سنوات. وأمكن للمصارف تحويل مستودعاتها إلى رأس مال تمويلي للقرض الزراعي أو لقطاع التجزئة. وساعدت الدولة البائعة في هذه الإمكانيّة برفع الحماية عن القرض الزراعي وخصخصة الآليات الزراعة، التي كانت تُعيرُها موسمياً للمزارعين.
-16-
مع تحول الدولة من “شاريّة” إلى “بائعة” تبيعُ حقوق الجباية والصيرفة والرخص البنكية والتنقيبية والضرائب والخدمات، تحوّل المواطن من مواطن إلى زبون. ولقد زاد صعود رجال الأعمال إلى السياسة في خلق عقلية تجاريّة للدولة. وهكذا وقع العبء الاستهلاكي على المواطن. وكانت الدولة الموريتانية قد رفعت الحماية عن اقتصاد المحروقات، سامحة بأكثر من 36 زيادة غير مدعومة في أسعار المحروقات. وبدا من الواضح أن الحكومة تستغلُّ ارتفاع الأسعار لتبقيها مرتفعة حتى بعد انخفاضها عالميا، متيحة أرباحاً خيالية لزبنائها في مجال المحروقات، كالمُعدم الصاعِد، افيل ولد اللهاه، صاحب شركة (NP)، والذي تدورُ معلومات أنه ليس إلا واجهة لأعمال الجنرال عزيز نفسه. ومع رفع الدولة الرقابة على الأسعار لم يعد أن يندرُ أن يُقرّرَ “مستورد الأغذية” الأكبر بالبلد بدون سبب معلوم زيادة الأسعار فيُسبِّبَ غلاءً كبيراً.
بَيْدَ أن ما يقعُ على كاهل المواطن الموريتاني ليس فقط الأعباء الاستهلاكية بل تلك التي تبدو سياديّة ومُتعلِّقة بالمهمة الجذرية للدولة. فمع تخفيض ميزانية الشرطة أو خصخصتها (وتُظهِرُ المعطيات أن أغلبَ ميزانية الشرطة صارَ يذهب في السلع والغذاء) أصبح الأمن مسؤولية المواطن في ظلِّ ارتفاع لمعدلات الجريمة. ورغم تزايد وتوفر شركات الحراسة الخاصة إلاّ أنّها تبقى امتيازاً للأغنياء دون الفقراء. وعلى هامش ضعف الدولة أمنياً ازدهرت الشركات الأمنية، التي تحمي أحواز الأغنياء ومنازل الأجانب؛ أما فقراء الأحياء الشعبيّة فقد تمّ تركهم لزيادة معدلات الجريمة والعصابات المنظمة، التي نمت في غياب الشرطة، التي كانت تعرفها بالخبرة والتعايش. وفي غياب العدالة الاجتماعية وانخراط بعض الشرطة المرورية في الاغتصاب وإذلال المواطنين صار لبعض العصابات خطاب روبن هودي وصعاليكي يجعل من الجريمة قضيّة عادلة. واستطاعت العصابات شراء رأس مال شرفي لها لأن الدولة غير قادرة على تجسيد خطاب العدالة والمساواة. ومع انهيار تعليم الدولة لصالح التعليم الخصوصي، بما فيه خصخصة الدولة لمدارِسها، فإن الفقراء فقدوا قدرتهم على منافسة الأغنياء على الصعود الاجتماعي. وسرعان ما أصبح التعليم العمومي، الفقير والمنهار، مجالاً للتمييز الاجتماعي ضد الفقراء، الذين لا بديل لهم عنه. وصار للتعليم بعدٌ عنصري أحياناً، بعد أن كان التعليم وسيلة المواطنة الأنجع. وهلى نفس المنوال صار الفقراء يدفعون ثمن الأطماع العقارية لرأس المال؛ ولم يعد يندرُ أن تقوم “الدولة البائعة” بتشريد سكان الأحياء الفقيرة لبيع أراضيهم لمنظمات استثمارية كما يحدثُ منذ ابريل الماضي عندما بدأت الحكومة محاولة طرد مزارعي “دار البركة” وخصخصتِها وبيعها بـ5000 دولار للهكتار لصالح “الهيئة العربية للإستثمار والإنماء الزراعي”.
-17-
لقد باينتُ أعلاه بين “دولة شارية” و”دولة بائعة”. بيدّ أن هذه المُباينة ليست إلاَ للتعرف على التحولات داخل نمط الدولة النيوليبرالية، التي أنتجها النظام الاقتصادي الدولي وأخذت شرعيتها من داخل منطقه. بطبيعة الحال فإن “الدولة البائعة” و”الدولة الشارية” كانتا تجدان دوماً تبريراً لنفسيهما في الخريطة الاقتصادية الدوليّة. وقد قالت دولة ولد الطايع لـ”بريتون وودز” أنّها تخلقُ سوقاً حُراً من خلال خلق طبقة مستثرية قادرة على الإنفاق والمرابحة؛ أي أنّها تخلق قدرة شرائية بتوسيع القدرات الإنفاقية للطبقة الوسطى. وافتخر ولد الطايع في 2001 بأن بعض المسؤولين يستطيعون الآن استثمار أموالهم لإعمار مساقط رؤوسِهم وتأهيل ذويهم. أما الجنرال عزيز فقد سقط في يد مطالب النقد الدولي بصنع دولة غير ثقيلة مؤسساتياً. وقد تُرجم رفض الدولة الاستثمار في برامج إنقاذ السكان المتضررين من الفيضانات والجفاف (وترك المجال لهيئات المساعدة الدولية أو للحظ) إلى استجابة لـ”الحكومة الصغيرة” لتي يُطالب بها النقد الدولي. في كلتا الحالتين افتخرت الدولة الشاريّة والبائعة بأنهما تفسحان المجال للسوق الحر. في كلتا الحالتين كانتا تمثلان النمط المعاصر والمُدَوّل من النيوليبراليّة.
-18-
لقد استخدمتُ أعلاهُ وصف “الدولة البائعة” لرصدِ تحولات الاقتصاد السياسي المتسارعة في البلد والمنطق الداخلي للنيوليبرالية؛ فالتخلص من ثقل الدولة ومن استفرادها بالخدمات الأمنية والضريبية والجزائية والإيداعية لا يتمُّ هنا فقط بسبب أن المانح الغربي يفرضه؛ بل أيضاً لأنه يصبُّ في مصالح الطبقة الحاكمة وإعادة توزيعها للأرباح بين أفرادِها. ولا يوجد ازدهار لرجال الأعمال في عهد الجنرال عزيز بدون إضعاف للدولة. وكما في أي نيوليبرالية فإن هذا يردُّ عبء الخدمات العامة على المواطن البسيط. وليست طبقة رجال الأعمال الجديدة طبقة تورِّدُ للدولة، بل هي طبقة تلعب دورها الاستثرائي عن طريق شراء الدولة نفسها. ولم يزدهر التعليم الخاص بدون إخواء التعليم الوطني. ولم تزدهر تجارة الأدوية الفاسدة بدون تقويض دولة الرعاية الصحيّة وتحويل صندوق الضمان الصحي إلى ريع خاصٍ. ووراء كلِّ قصة “نجاح” للمال الخاص فشلٌ للخدمة العامة وللدولة، وقُدُماً المواطنة، نفسها. وبمعنى آخر فإن “الدولة البائعة” هي “الدولة الفاشلة”.
العنوان الأصلي للمقال ـ كل رجال الرئيس من الدولة الشارية إلى الدولة البائعة
عباس ابراهام ـ تقدمي كوم