الخطيئة والعقاب في ثقافة قتل الأب واستتباعاتها…
ينبئ انزلاق السجال السياسي بين مختلف الدوائر الفاعلة داخل العائلة السياسية لحزب نداء تونس باتجاه تعاظم وقع الملاسنات الكلامية وشدة اللعان الصادم، عن تحوّل العمل السياسي.
ببلادنا إلى ما يشبه موالد شيوخ الدجل ومواسمهم. فقد تعاظم الخرق باستشراء أساليب الإثارة الرخيصة والاهتبال بتبادل نابي السباب وأقذعه، هذا الذي يوشك أن يحوّل مخاض انبثاق نُخب سياسية، إلى بؤرة متعفنة لا يخدم امتدادها إلا مزيد من التسوية إلى أسفل تسريعا للنسق الكارثي لالتهام مزيّف النقد لصحيحه. فقد وصلت الأمور إلى حالة من التشرذم، أصابت الرأي العام بالذهول بعد خيبته في نخب منحها كامل ثقته، معتقدا أنها قادرة على استبعاد شبح الفتنة بلا رجعة.
وبقطع النظر عن الطابع الشخصي للصراع الحزبي الداخلي وحسابات كل فريق وتكتيكاته فإن ما نود التشديد عليه هو أن المسؤولية السياسية والأخلاقية لهذا التردي جماعية بامتياز، تعبر في العمق عن أزمة السلوك السياسي لنخب لم تجد بعد طريقها إلى الفعل السياسي المسؤول. فما يحصل اليوم داخل حزب المدافعين عن المشروع المجتمعي الحداثي التونسي من انعدام لقواعد ومعايير السلوك الصحي، ومن توتر ينبئ بدخول الواقع السياسي التونسي في تناقض مع نص دستور البلاد وروحه. وهو ما يشكل من وجهة نظرنا إعادة إنتاج للمدلول الرمزي لما أجمله الشاعر الإغريقي «أوفيد» ضمن أسطورة «إيكار» الشهيرة حول علاقة الأب بأبنائه ويقين هذا الأخير في حكمته بأن قدرة البشر على محاكاة الطير في طيرانه تقاس بمدى النجاح في الإفلات
من ورطة الانحشار في الزاوية، وليس في الاعتقاد الساذج في إمكانية الارتفاع عاليا بأجنحة قدّت من شمع من السهل على العناصر إتلافها ودق رقبة من حملها بعد سقوطه من عليائه. لذلك فإنه ومن موقع الانتصار للفكر الحرّ وباعتبار مواكبتنا لتجربة نداء تونس منذ النشأة ومساهمتنا من قريب في صياغة مرجعياتها الفكرية والسياسية، يهمنا اليوم أن نصدع برأينا فيما هو حاصل داخل هذا الائتلاف السياسي تحملا منا لمسؤوليتنا الأخلاقية والسياسية.
1) إن نداء تونس مثّل إلى حدود الانتخابات الأخيرة التعبيرة المنظمة عن إرادة الشعب التونسي في إعادة البلاد إلى حالتها الطبيعية وإصلاح أمرها دون القطع مع ماضيها.
2 ) لم يكن نداء تونس حزبا مكتمل البناء، وإنما حركة قامت على أرضية سياسية صاغها مؤسسها، والتقى حولها جزء واسع من الرأى العام بما فيها النخب السياسية التي فشلت في تحقيق التوازن السياسي المطلوب بمفردها أو داخل أحزابها.
3) ليست نظرية الروافد الأربعة التي كان مؤسس الحزب وراء استنباطها معطى منجزا من البداية، بقدر ما هي صيرورة ممكنة تفتح أفقا جديدا لتطور المشهد السياسي والحزبي في البلاد وتقطع مع أنماط الأحزاب الإيديولوجية والعقائدية.
4) إن الانتصار الانتخابي السريع لنداء تونس هو الذي أحدث مفارقة مفاجئة بين إمكانية إدارة الحكم لقيادات ميدانية رأت في انتصارها تعبيرا عن مشروعية طموحها، وبين الاستحالة الموضوعية للحكم بمفردها بالنظر إلى موازين القوى الفعلية في المجتمع.
5) إن عملية بناء حزب يطمح إلى تجديد العقل السياسي والممارسة المدنية في غياب حوار فكري وسياسي عميق تشارك فيه أطراف متعدّدة من داخل الحركة ومن خارجها أيضا أضحت غير ممكنة اليوم بالنظر إلى المأزق الذي آلت إليه الأوضاع.
6) تواجه قيادات النداء وبعد جميع ما حصل حالة عجز عن الخروج من المأزق مما يستوجب إعادة توزيع الأوراق من جديد، وهي مسؤولية يُحمل عبؤها في تقديرنا على رئيس الحزب المؤسس إن كانت لديه الرغبة والطاقة الكافيتان لتحمل ذلك، مع ما قد يترتب عن انجاز مثل تلك الجراحة الدقيقة من تبخر حلم تجديد النخب أو تأجيله.
وبناء على ما تقدم فإننا ندعو من موقعنا ومن دون الإسراف في حمل أية أوهام طفولية كافة الأطراف الفاعلة داخل حزب النداء إلى الاتعاظ بمحكمة الأوائل من أن المسك بشكيمة أفراد العائلة لا يقل خطورة عن الإشراف على تصريف شؤون بلاد بأكملها. وأن القبول بالمراجعة يستند إلى الاعتراف بسوء التقدير والخروج من وهم مطلق الوصاية على مشروع خرج عن نطاقهم وأضحى ملكا لكل التونسيين وجزءا لا يتجزأ من مستقبلهم أيضا.
يطل «موسم قتل الأب» من نوافذ عائلة نداء تونس المهشمة بفعل سذاجة الأبناء وضلالهم، أولئك الذين لم يدركوا في تعاظم صراخهم وسبابهم أن الكرة التي يتقاذفونها قد جمعت من أطمار بالية، وأن الجلوس إلى المائدة يقتضي القيام عنها، وأن لذة الرضاع غالبا ما تلهي عن مرارة قرب حصول الفطام
عبد الحميد الأرقش – لطفي عيسى