متى تُوقف الوزيرة حربها على الثقافة؟
لم يكن قرار وزيرة الثقافة بإلغاء النسخة السادسة من مهرجان المدن القديمة بالقرار الموفق، حتى وإن احتجت الوزيرة بأنها كانت قد اتخذت هذا القرار بعد أن وصلتها رسالة من منتخبي “وادان” تطالب بإلغاء نسخة هذا العام من المهرجان، وذلك لتزامن هذه النسخة مع فاجعة أليمة تعامل معها الرئيس “محمد ولد عبد العزيز” بحكمة بالغة، وبصبر جميل، نسأل الله أن يجعل ذلك في ميزان حسناته.
حقا لقد كانت الفاجعة أليمة ومفاجئة ومع ذلك فقد تصرف الرئيس بما يجب أن يتصرف به في مثل هذه الحالات، فكان أول شيء فعله هو أنه أبعد الإعلام الرسمي عن هذه الفاجعة، ثم إنه لم ينس أن يزور أسرة الصحفي الذي توفي في الحادث، وكانت تلك لفتة إنسانية بالغة الدلالة، ولقد ظهر الرئيس خلال كل أيام العزاء بمظهر المؤمن الصابر المتقبل لقضاء الله وقدره.
ولم يكن الرئيس هو وحده من تعامل مع هذه الفاجعة الأليمة بما يناسبها، فقد كان هناك أيضا الشعب الموريتاني، والذي لم يتأخر في التعبير عن حزنه، ولا في تقديم التعازي للرئيس وحرمه. لقد امتلأت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وواجهات المواقع بالتعازي. كما توافدت أفواج المعزين إلى منزل والد الرئيس بلكصر، فتزاحم المعارض مع الموالي، والموظف السامي مع المواطن البسيط، والصغير مع الكبير، وأنا هنا لا أتحدث عن شيء سمعته، بل عن شيء رأيته بأم عيني وذلك عندما جئت ـ كغيري من آلاف الموريتانيين ـ لتقديم التعازي للرئيس في منزل والده بلكصر. لم أكتف بتقديم واجب العزاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولا عبر قناة “المرابطون” التي كانت قد استضافتني لنشرتها الإخبارية يوم الفاجعة، وإنما قررتُ بالإضافة إلى كل ذلك أن أقدم التعازي للرئيس بشكل مباشر في منزل والده بلكصر.
لقد تعامل الجميع (الرئيس والشعب) مع فاجعة الثلاثاء بحكمة بالغة، ولقد كان الاستثناء الوحيد هو ما أقدمت عليه وزيرة الثقافة، والتي قررت في ردها على رسالة منتخبي “وادان” أن تلغي ـ وبكل بساطة ـ النسخة السادسة من مهرجان المدن القديمة. يظهر من أسلوب كتابة الرد أن الوزيرة هي وحدها من يتحمل المسؤولية في إلغاء المهرجان، فهي لم تشر في ردها على تعليمات أتتها من الوزير الأول، ولا إلى توجيهات سامية جاءتها من الرئيس، وإنما اكتفت في قرار الإلغاء بكتابة ما يلي: “بناء على طلب من منتخبي مدينة ودان ووجهائها وساكنتها، قررت وزارة الثقافة والصناعة التقليدية تأجيل افتتاح مهرجان المدن القديمة ودان 2015.”
بكل بساطة ألغت الوزيرة النسخة السادسة من مهرجان المدن القديمة بقرار طائش، وهو القرار الذي قالت بأنها كانت قد اتخذته استجابة لطلب من منتخبي المدينة ووجهائها وساكنتها. ما أستطيع أن أجزم به هنا هو أن الساكنة لم تطلب أبدا من الوزيرة تأجيل ولا إلغاء النسخة السادسة من مهرجان المدن القديمة، بل على العكس من ذلك فإن هذه الساكنة قد أصيبت بصدمة وبخيبة أمل كبيرة عندما علمت بإلغاء المهرجان.
لقد كان على الوزيرة من قبل أن تتخذ قرارها الخاطئ أن تأخذ بعين الاعتبار الأمور التالية:
1 ـ إن مهرجان المدن القديمة قد ارتبط بمناسبة دينية وهي تخليد ذكرى المولد النبوي الشريف، وتخليد المناسبات الدينية لا يمكن أن يلغى بسبب أي فاجعة مهما كانت طبيعتها، بل على العكس من ذلك فإن الفواجع والمصائب يجب أن تحفزنا أكثر لتخليد مثل هذه المناسبات الدينية.
2 ـ كان من الممكن أن يفتتح الوزير الأول أو وزيرة الثقافة النسخة السادسة من مهرجان المدن القديمة على أن يختتم الرئيس بنفسه هذه النسخة في يومها السابع، وبعد أن يكون الحداد قد انتهى، وتكون فاجعة الثلاثاء قد مر عليها أسبوع كامل. وعلينا أن نتذكر بأن هناك طائفة من الموريتانيين لا تخلد المولد وإنما تخلد اليوم السابع (يوم الاسم)، ولذلك فإن حضور الرئيس للمهرجان في اليوم السابع كان سيشكل لفتة رسمية بالغة الدلالة لصالح طائفة كبيرة من الموريتانيين تعودت أن تخلد اليوم السابع من بعد ميلاد الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام.
3 ـ إن الذي كان يجب أن يتم إلغاؤه هو تلك المظاهر والاحتفالات التي لا تتناسب مع الفاجعة، ولا تتناسب أصلا مع ذكرى المولد النبوي الشريف، فتلك المظاهر والاحتفالات هي التي كان يجب أن يتم إلغاؤها ليس في النسخة السادسة فقط، بل وفي كل نسخ المهرجان الأخرى.
لم توفق الوزيرة في تبريرها لإلغاء النسخة السادسة من مهرجان المدن القديمة، ولا أحد سيصدق بأن إلغاء هذه النسخة قد جاء تلبية لطلب من ساكنة المدينة، والحقيقة أن سكان المدينة قد أصيبوا عن بكرة أبيهم بصدمة وبخيبة أمل كبيرة لما علموا بأن النسخة السادسة من المهرجان قد تم إلغاؤها بقرار طائش تم توقيعه من طرف وزيرة الثقافة.
فأن تلغى هذه النسخة بيوم واحد من قبل ذكرى المولد فذلك يعني بأن المدينة وساكنتها ستتكبد خسائر كبيرة وفادحة، فالتاجر الذي كان قد استورد كمية كبيرة من البضائع تفوق حجم مبيعاته لعام كامل، وبائع المواشي الذي كان قد استورد مئات الرؤوس من الأغنام، وطالب العمل الذي كان قد تكلف تذكرة نقل وجاء من إحدى القرى المجاورة ليعرض خدماته خلال أيام المهرجان..كل هؤلاء وغيرهم قد أصيبوا بخيبة أمل كبيرة بسبب إلغاء المهرجان. أما أولئك الذين جاؤوا بمنتجاتهم وببضائعهم من مدن بعيدة ك”تيشيت” و”ولاتة” فإن مصيبتهم كانت أكبر، ولو أن الوزيرة شاهدت أولئك الوافدين وهم يطوون خيامهم بكل أسى، للعودة من حيث أتوا، لعلمت بأنها قد اتخذت أسوأ قرار في تاريخ وزارة الثقافة. إن هذا القرار الطائش، وما سبقه من قرارات تسببت في تفكيك بعض الاتحادات أو زادت من تفكيك بعضها الآخر (اتحاد الأدباء، اتحاد الفنانين، اتحاد الرماية..) ليشرع لنا طرح السؤال التالي: متى تُوقف الوزيرة حربها على الثقافة؟
قبل النسخة السادسة من مهرجان المدن القديمة بأسابيع كتبتُ لوزيرة الثقافة، وأرسلتٌ لها عدة مقترحات لإنجاح هذه النسخة، وهو الشيء الذي كنتُ أفعله دائما مع من سبقها لهذا المنصب، ومع وزراء آخرين في قطاعات أخرى، ولم أكن في كل الأحوال أحصل على أي رد. إن تقديم المقترحات للوزراء أو للموظفين السامين في هذه البلاد لهو من العادات السيئة التي لم أستطع أن أتخلص منها، وذلك رغم قناعتي التامة بعدم جدواها.
الجديد مع الوزيرة الحالية هو أني كنتُ قد جربتُ معها بالإضافة إلى الرسائل العادية المراسلة عبر البريد الالكتروني، والمراسلة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والاتصال عبر الهاتف لإيصال المقترحات، ولكني لم أحصل على أي رد. ولقد تمنيتٌ أن يكون بإمكاني أن أوصل إلى الوزيرة ومن خلالها إلى الرئيس، وعلى وجه السرعة، مقترحي الأخير الذي خطر ببالي بعد حصول فاجعة الثلاثاء، والذي كان يتمثل في ضرورة تعديل النسخة السادسة من مهرجان المدن القديمة، وفي إلغاء المظاهر والاحتفالات التي لا تتناسب مع الحداد، ولا مع ذكرى المولد النبوي، وأن يتم استبدال تلك الاحتفالات بتوزيع أدوات مدرسية وسيارات إسعاف باسم “هيئة الرحمة” لصالح بعض المدارس الابتدائية والمراكز الصحية بمدينة “وادان” . هنا نكون قد تصرفنا بما يليق بحجم الفاجعة، وهنا نكون قد واصلنا العمل الخيري الذي كان قد أطلقه المرحوم بإذن الله “أحمدو ولد عبد العزيز” في شرق البلاد وفي جنوبها ووسطها، والذي كان يجب أن لا يتوقف برحيله.
رحم الله “أحمدو ولد عبد العزيز” و”الشيخ عمر انجاي”، رحم الله هذين الشابين اللذين رحلا عن دنيانا الفانية وهما في مقتبل العمر، رحم الله الشاب “أحمدو” الذي اتفق كل من عرفه على حسن خلقه، وعلى تواضعه، وعلى حبه للعمل الخيري، ويكفي للواحد منا أن يتأمل صور هذا الشاب وهو يجالس الفقراء في أكواخهم في قرى نائية ليعرف بأن حب هذا الشاب للعمل الخيري لم يكن حبا متصنعا ولا متكلفا. فأن يقرر ابن رئيس دولة في العالم الثالث، وفي سن الشاب “أحمدو” أن يولي وجهه شطر قرى نائية ليقدم يد العون للفقراء بدلا من العيش في أرقى المدن وأفخر الفنادق فإن ذلك لدليل قوي على أن هذا الشاب كان يهوى ويحب فعلا العمل الخيري. اللهم ارحم الشاب “أحمدو”، و أبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وألهم ذويه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل