إلى متى نبقى نصف حالنا بمفردات خصومنا
قد يكون الصمت أشد خطرا من الخيانة والجبن و الارتزاق والتواطؤ، فعندما يعتقد معظمنا أن التقدم ملحاح يتم بمرور الزمن ، و أن كل ما هو لاحق يتطورباستمرار على ما سبقه ، فهذا عجز فى موازنة الفكر و التنظيم وتفريغ للمحتوى الابداعي من كل طاقة أو رمق ، وهذا هو الذي تسعىى إليه بعض النخب المستلبة ، التي تعتبر فى التحليل النهائى جزء من الثورة المضادة ، حيث ترتهن للآخر ، وتقترف ما هو اشد استبدادا من الحكام ، وتحتكر المنابر وتنشر الآراء المغشوشة في كل سانحة تتخلص فيها من خصومها المثقفين والمناضلين الشرفاء.
كما تدرك هذه النخب أن عليها الالتزام المطلق بشرط الولاء للخطاب الغربي فتكرس السردية الأجنبية و تساهم بنشاط فى تحقيق الاجندة الرأسمالية خصما على أي بديل ، ففى حالات بعينها قام الغرب بتكريس الثقافات الاستعمارية في تلك الامتدادات التابعة والخانعة ، و بقيت معظم النخب المتماهية مع هذه الثقافات تردد ما تعلنه السياسات الاستعمارية و تعيد انتاج ما يكتبه الانتروبولوجيون و السوسيولوجيون الغربيون .
و لعل مصيبة معظم هذه النخب خصوصا العربية منها تعود الى أنها بلا أصل ثقافي ، لأنها صنعت من التعليم الغربى أو المغرب ، لذلك فهي تزدري بالموروث الثقافي لحضارتها ، و تصم مجتمعها بالتخلف الابدي ، مثلما ينكر كافة الليبراليون و الماركسيون على أبناء المشرق القدرة على التطور والابداع ، في حين أن هذه النخب تقصر عن بلوغ كنه الثقافة الغربية التى تنتحلها مطمئنة لما تقول دون أي بحث عما تقصد حقا ، مع أنها تدرك أن بعض الكتاب والثوار العروبيين والكونيين تجاوزوا المحلية جراء فكرهم ونضالهم وأمانة انتمائم الى الشعب .
غير أن مفردة الشعب هذه تعني غالبا التنوع رغم توحد معظم مكوناتها حول مصالح وأمان وغايات و طموحات يحدوها النزوع للحرية و الكرامة ، إلا أن تكييف الموروث الثقافي والأخلاقي لمختلف المكونات العرقية ، لايقتضي بالضرورة الاستلاب اللغوي والحضاري والخلود المطلق في الطرف السفلي لثقافة ذلك الاجنبي المحتل ، وبدلا من ذلك يلزم المكونات العرقية التركيز أولا على النقاط المشتركة وتحديد مواضع الاتفاق لأن ذلك يساعد على تقليل الفجوة ، ويوثق الصلة بين كافة الأطراف .
ومن هنا فإن المشتركات الكثيرة التي تربط العلاقات الحميمة بين مكونات شعبنا لايمكن تجاوزها ولا الاعراض عنها ، ومعلوم أن من أهم المشتركات الخالدة لهذه المكونات ، هي الدين الإسلامي الحنيف ، واللغة العربية ، والوحدة الوطنية .
وإذا كنا قد استوعبنا لماذا استهدفت السياسة الاستعمارية بوضوح استئصال اللغة العربية من خلال عملية مزدوجة تتمثل في إقصائها بيداغوجيا والحط من شأنها ثقافيا، فإننا لم نفهم بعد لماذا حاربت بعض المكونات العرقية في موريتانيا اللغة العربية واعتبرت أن تدريسها يشكل خطرا عليها ، مع أنها لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ومفتاح الأصلين العظيمين الكتاب والسنة ، كما أن العمل بهذه اللغة هو مجرد إقرار للمادة 6 من الدستور، التي تنص على أن اللغة الرسمية هي العربية ، واللغات الوطنية هي العربية والبولارية والسوننكية والولفية .
وإذا كانت اللغة العربية لم تكن هي اللغة الأم لبعض مكونات شعبنا ، فإن اللغة الفرنسية الوافدة مما وراء البحار، لم تكن لغة محتل حاقد فحسب ، وإنما هي أكثر من ذلك لغة معادية للحضارة الإسلامية والدين الإسلامي الحنيف ولغته الخالدة.
وبما أن الأقليات العرقية غير الناطقة بالعربية ظلت تربطها وشائج قوية باللغة العربية ، مثل الدين والتاريخ والحضارة والعلاقات الاجتماعية بالمكون العربي في هذا البلد ، فإن الحجج التي يسوقها المتغربون من هذه الأقليات والقائلة : ” بأن أبناءهم لا يعرفون اللغة العربية ، وأن التعريب تهميشا لهم ” ، لا يمكن أن تكون مقبولة مطلقا ، لأن اللغة الفرنسية التي استبدلوها بالعربية لاتربطهم بها علاقة ، ومع ذلك فإن ” كل مولد يولد على الفطرة ..” ، فالطفل صفحة بيضاء ويستطيع أن يتعلم أي لغة بما في ذلك العربية التي سيحتاجها في صلاته على الأقل .
غيرأن المهتمين بهذا الشأن يعتقدون أن السبب الحقيقي وراء عزوف البعض عن تعلم اللغة العربية يرجع بالأساس إلى الإقصائية التي تنتهجها بعض الحركات المتعصبة من الأقليات العرقية في بلادنا والتي لاتقبل للمكون العربي أن يتمتع بحقوق الاغلبية ، حتى ولو كانت حقوق الاقليات مضمونة بصيانة تراثها وتدريس لغاتها ، ويستشهدون على هذا بأن أغلبية الموظفين من هذه الأقليات المحترمة يقضون أعمارهم الدراسية والوظيفية إلى جانب إخوانهم العرب ممتنعين عن تعلم أبجدية اللغة العربية والكتابة بها ، في حين أن إخوانهم العرب القادمين من المحظرة يحاولون تعلم الفرنسية ويبذلون في سبيل ذلك جهدا كبيرا ، ويؤيد هذا أيضا أن العربية منتشرة بين الأفارقة في السنغال ومالي وغانا وغانبيا واتشاد أكثر منها بين الأفارقة هنا في موريتانيا ، رغم أن فرص تعلمها في بلادنا أكثر وأوفر بكثير.
إلا أنه من الانصاف أن نسجل هنا أن غياب الحس الوطني والقومي لدى صناع القرارفي بلادنا هو بالأساس الذي مكن الفرنسية من الإعتراف بها كلغة للترقية الاجتماعية بدونها يصعب على المرء أن يشق طريقه في السلم الوظيفي حتى الان .
وإذا كان بعض القياديين في التيار الإسلامي ، ومن قبلهم الشيوعيين قد رأوا أن الدفاع عن اللغة العربية هو ” اكراه في التعريب ” واعتبروا أن هذا الهدف مخيف لمكونات بعينها إن استمرت إساءة تقديمه ! ، فإننا نتساءل عن ماهي وسائل الإكراه التي استخدمها أولئك المدافعون عن اللغة العربية ؟ وماهي الآليات التي يمتلكها القوميون والمواطنون البسطاء الذين يطالبون بالتعريب ؟، وهل تمت بالفعل إكراهات حقيقية من أجل تعلم اللغة العربية أوالتعريب ؟ وما هوالخطر الذي يخيف أي مكون وطني ، أويسيء إليه إذا طالبت الأغلبية البالغة 85% من الشعب الموريتاني بترسيم اللغة العربية وجعلها هي لغة الإدارة والعمل بدلا من اللغة الاجنبية التي لا يربط الجميع بها سوى علاقة الغالب بالمغلوب ؟.
ومع أننا نفترض أن هذه النصيحة مخلصة وصادقة ، فقد تعين على هؤلاء في هذا المقام أن يقدموا نموذجا أفضل من أجل ترسيم لغة الإسلام والدفاع عنها .
باباه ولد التراد