من الأصفياء الأخفياء .. محمد ولد محفوظ ولد خيري في ذمة الله
توفي صباح الجمعة الموافق 15 يناير 2016 في دكار محمد ولد محفوظ ولد خيري، عن عمر يقارب السبعين عاما، بعد مرض عابر قصير مفاجئ، تغمد الله الفقيد برحمته الواسعة في فردوسه الأعلى، وألهم ذويه الصبر والسلوان، و”إنا لله وإنا إليه راجعون”.
اتصلت على كثير ممن خالطه، كان من بينهم أحد أبناء عمومته الجادين، الذي عرف بحساب الكلمات وتحري الصدق، أحمد ولد هنن ولد اعبيدن، فقال لي مسين ولد خيري “أحسنت اختيار هذا الشاهد، لأنه فعلا يعرف الفقيد وعامله مرات متعددة”.
قال لي أحمد ولد هنن ولد اعبيدن “وجدت أمامي محمد ولد محفوظ ولد خيري في مدينة أزويرات سنة 1969، وهو في ريعان شبابه ما بين 20 و 21 سنة، حيث كان يعمل في شركة ميفارما، وهي شركة لاستخراج معدن الحديد، ثم أردف أحمد قائلا خالطته أكثر بعد ذلك في المعاملات وقطاع المقاولات بشكل خاص، وخصوصا بعدما تولت مؤسسة الطرق والبناء التابعة لمؤسسة أهل انويكظ، مشروع بناء مئات المنازل، ضمن ما سمي وقتها بسوكوجيم معاوية، فكان مضرب المثل في الاستقامة والجد والصبر وحسن الخلق”.
وللتذكير ولد الراحل-رحمه الله- بأطار سنة 1946، وتحت ضغط الظروف العائلية، غادر المدرسة من قسم السنة السابعة ابتدائية، فيما يعرف وقتها ب CM2 ، ومصداقا للشاهد عمل في ازويرات ضمن وظيفة إدارية مع المسؤول الأول الفرنسي لميفارما، وفي هذه المدينة تعرف أكثر على رجل الأعمال الشهير المؤسس لـ “بريفيت” المختصة أيضا في مجال البناء الخليل ولد عبد الله رحمه الله، حيث انتقل إليها سنة 1974 إلى نهاية 1975 تقريبا، وقد سنحت له بالانتقال إلى نواكشوط، ليعمق ويجسد تجربته في مجال البناء والعمران، وبعدها في نهاية 1975 وعلى مشارف 1976، أصبح موظفا في شركة “ERB” المذكورة سابقا، والتي أسسها ابن عمه وصهره الراحل عبد الله ولد نويكظ –رحمه الله-، حرم شقيقته فاطمة بنت محفوظ ولد خيري، وضمن هذه التجربة –بوجه خاص- قدم الفقيد دورا واسعا وإيجابيا لبلده في مجال تشييد المنشآت وإقامة أولى ملامح البنى التحتية في موريتانيا.
وقد انتقل، خلال مساره التعليمي والمهني، من أطار في أواخر الستينات إلى أزويرات ثم إلى نواكشوط في سنة 1974، وقد جال وصال في كثير من الدول والبلدان، وقدر الله وما شاء فعل، تردد في الفترة الأخيرة على بعض الدول الإفريقية لتنفيذ بعض المشاريع فيها، وكانت بعض هذه البلدان، وما بين 8و9 يناير 2016، بعد الرجوع من ساحل العاج، ألمت به وعكة صحية مما اضطره للعلاج في داكار، حيث توفي –رحمه الله- صباح الجمعة.
وبشهادة الجميع، كان الفقيد يعمل في صمت وبدماثة أخلاق، كما عرف بالبرور والإقبال على شأنه، وكان بشهادة هؤلاء حمامة مسجد، تقبل الله منه.
قال لي صاحبه –الشاهد بخير آنفا- السيد أحمد ولد هنن ولد أعبيدن، إذا أطلت العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، أغلق هاتفه وصعب لقاؤه للشؤون الدنيوية، معتكفا في المسجد، ومنذ سنوات عديدة وبشهادة أحد أقاربه، الذي كان يسكن معه في نفس المنزل بلكصر، بجوار الجامع العتيق الأول، المعروف بمسجد بداه، منذ سنة 1986.
كان شديد البرور لوالدته هندُ بنت سيدي الهادي ولخاله أحمد بن المؤذن –رحمهم الله جميعا-.
كان وصالا لبيت الله الحرام، حجا وعمرة، تقبل الله منه.
إذا وثق فعن خبرة وحزم، أعطى الثقة كاملة، قال لي أحمد ولد هنن، كان يترك عندي شيكات مصرفية بيضاء موقعة، لاستخدامها عند الاقتضاء، أيام تنفيذ مشروع سوكوجيم معاوية، في ظل غيابه أو انشغاله بمهام أخرى.
ويقول أحمد ولد هنن رددت له كل تلك الوثائق وصفينا كل حساباتنا.
وإذا تحفظ أيضا في المقابل، فعن حذر وحرص على الأمانة.. مبتعدا بلباقة وذكاء وأدب، فهو يأخذ العصا من الوسط، بحزم وروية، “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب”، “يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم”.
كثير ممن ساكنه، حتى من غير أهله، شهد له بالكرم على وجه التواتر”والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما”.
عايشت فترة الثمانينات، حيث كانت داره في لكصر مأوى للجميع عن قصد، وهو لا يختص إلا بغرفة نومه تقريبا.
في وسط الثمانيات، وقبل ذلك بالنسبة لأجيال أخرى، تعج دار محمد ولد محفوظ ولد خيري بخلق كثير، من شتى الألوان والمشارب والجهات، ملتقى لكل من أراد أن يأكل ويشرب وينام ويعمل، وتقضى له حاجات.
اللهم اغسل خطاياه بالماء والثلج والبرد وتجاوز عنه، وتجاوز عنا إذا صرنا مثله وعن سائر المسلمين، واقبل منه سائر أعماله الصالحة الجمة الكثيرة.
من الناس من لا يعمل في الواجهة، فهو يتوارى عن الناس بعمله الصالح مخافة الرياء وبمساعدة من طبع راسخ، يتسمُ بعدم الرغبة في إشاعة إحسانه على الناس، ربما مخافة المن.
كان محمد ولد محفوظ ولد خيري من هؤلاء الأصفياء الأخفياء، حسب قرائن كثيرة، تقبل الله منه.
صفى ما بينه وكثير من الخلق، بالود والصفح والمودة، حسب المستطاع، كما صفى ما بينه وبين خالقه، بالعمل الصالح الصامت الجاد بإذن الله، وفق ما نحسبه ولا نزكي على الله أحدا.
اللهم اجعل أولاده ممن يدعون له بخير باستمرار، وألهم عائلته وسائرها الصبر والسلوان.
وأهدنا وإياهم وسائر المسلمين سبيل الخير والمحجة البيضاء.
اللهم لا بقاء إلا للعمل الصالح، فضمن تراثنا الإسلامي من صحيح سنته صلى الله عليه وسلم أن الرجل المسلم لا ينفعه بالدوام، بعد موته، إلا ثلاثة، وهنا نسردها بالمعنى، علم نافع بثه في صدور الناس، ـ و صدقة جارية مثل بئر الماء الموقوف، وغيره من العمل النافع ذو الطابع العمومي المحرر من الملكية الشخصية الشكلية، وولد صالح يدعو له بخير بإذن الله.
اللهم أرحم السلف وبارك في الخلف، اللهم آمين.
“كل نفس ذائقة الموت”، “ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون”.
“إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى”.
أعزي سائر الأسرة فردا فردا، وأخص بالذكر عبدو ولد محمد ولد محفوظ ولد خيري ومحمد الأمين وأحمد، وشقيقة الفقيد المنفقة العابدة الحكيمة فاطمة بنت محفوظ ولد خيري، وإبنيها أخوي محمد ولد عبد الله ولد نويكظ ومحمد الأمين، كما نعزي أرملة الفقيد مليكه بنت عبد الرحيم ولد خيري وأخيه لأم أحمد ولد سيدي ولد أحمد مولود ولد برو.
كان الراحل يعمل في صمت وبالأسلوب المناسب، والتروي الكامل، والأمانة في أعلى صورها والسخاء في أزهى حلله.
كان نموذجا في البر والوفاء والتواضع والحرص على الصلوات حيث ينادى بهن.
يمازح دون خدش للحياء أو تجاوز للحد، يصبر على المسيئ ويصل من قطع.
فلا يقطع صلته بفلان أو علان، لأنه مثلا أساء إليه أو على من له مصالح معه، كما يقال في المثل الحساني “نبغيلك بغيك ولا نكره لك كرهك”.
واسع الصبر وصالا للرحم.
يتجاوز عن الضعفاء بوجه خاص، ويتحاشى الشحناء واللغو والجدال، ويفضل العمل النافع الناجع في توازن، دون إفراط أو تفريط بمزج شرعي وواقعي بين درهم المعاش الحلال وحسنة المعاد، التي إليها المآل والمصير” والعاقبة للمتقين”.
اللهم أجعله من المتقين جزاءا لإحسانه وحسن خلقه.
إنتقل إلى رحمة الله أحد الأصفياء الأخفياء، وأكرر لا نزكي على الله أحدا، فذلك فحسب وفق ما نتصوره ونحتسبه.
لقد دشن مدرسة بالعمل الصامت الجاد المستقيم والبرور وصلة الرحم، وختمها على هذا المنوال، الإيجابي الراشد، الذي دأب عليه إلى صباح الجمعة، اليوم المتميز من الأسبوع الذي يشهد فريضة الجمعة المباركة الجامعة، وقد شهد هذا اليوم اجتماع المسلمين في جامع لكصر، وتوافدهم عليه لأداء صلاة الجنازة على الفقيد رحمه الله، حيث صلى عليه جمع غفير في مسجد الإمام بداه رحمه الله.
وقد توافد الكثير من أبناء عمومته ومعارفه، ضمن مشهد حافل مهيب، رحم الله الفقيد وأدخله فردوسه الأعلى و”إنا لله وإنا إليه راجعون”.
بفلم عبد الفتاح ولد اعبيدن