وزير في ورطة!!
لستُ من الذين يحبون تكرار العناوين، ولكني وعلى الرغم من ذلك فقد وجدتني اليوم مضطرا لتكرار هذا العنوان الذي كنتُ قد استخدمته في مقال سابق للحديث عن الورطة التي وقع فيها الوزراء في أواخر شهر سبتمبر من السنة الماضية، وذلك بعد أن أمرهم الرئيس بترك مكاتبهم، والتفرغ لمهمة “أسمى” كانت تتمثل في شرح مضامين ونتائج اللقاء التشاوري.
في تلك الفترة كان البلد ينزف بسبب الحمى، ومع ذلك فقد ترك وزير الصحة المرضى وهم يعانون في المستشفيات، تركهم لحالهم، وذهب هو يبحث عن ناجين من الحمى ليحدثهم عن مضامين ونتائج اللقاء التشاوري، والذي لم تكن له أي مضامين تشرح، ولا أي نتائج تقدم للناس. في تلك الأيام وجد الوزراء أنفسهم في ورطة شديدة، ولم يجدوا ما يحدثوا به الناس، فالأيام التشاورية لم تكن لها من نتائج ومضامين إلا المطالبة في بيانها الختامي بأن يكون الأسبوع الأول من شهر أكتوبر موعدا لانطلاق الحوار السياسي الشامل، وأن تتخذ الحكومة كل التدابير اللازمة لإطلاق الحوار في ذلك الموعد. ولقد تعهد الوزير الأول في خطابه الذي اختتم به تلك الأيام بتنفيذ ذلك المطلب، ورد على المشاركين قائلا : ” فلتكونوا على يقين بأن الحكومة ماضية في الوفاء بالتزامها التام بالأخذ بما توصلتم إليه من أفكار ومقترحات قيمة، ولكم عليها أن تكون عند حسن ظنكم، وأن توفر كل أسباب نجاح الحوار الشامل الذي ألححتم على انعقاده في اقرب الآجال. وستبدأ من هذه اللحظة التحضيرات الضرورية لذلك”. لم ينفذ الوزير الأول وعده، ومر شهر أكتوبر، وجاءت من بعده ثلاثة أشهر، ونسي الناس اللقاء التشاوري وتوصياته. أموال طائلة أنفقت في مشاورات هزلية، لم تكن لها نتائج ولا مضامين، ومع ذلك فقد طُلِب من الوزراء أن يتركوا مكاتبهم وأن يذهبوا إلى الناس في مدنهم وفي قراهم ليحدثوهم عن نتائج ومضامين تلك الأيام!! إن أي إنسان سوي، لابد وأن يشعر بالحرج الشديد عندما يطلب منه أن يُحَدِّث الناس عن شيء لا يفهمه، أو أن يستعرض أمامهم نتائج شيء بلا نتائج، أو أن يبرر لهم شيئا لا يمكن تبريره. وإذا كان الوزير الناطق باسم الحكومة إنسانا سويا، وأحسبه كذلك، فلا بد وأن يكون قد شعر بالحرج عندما طُلِب منه أن يبرر في مؤتمره الصحفي عدم تخفيض الحكومة لأسعار المحروقات في ظل هذا الانهيار الكبير الذي تشهده أسعار النفط في الأسواق العالمية. لم يكن لدى الوزير الناطق باسم الحكومة ما يقوله في مؤتمره الصحفي، ولذلك فقد جاء بمنكر من القول، ولتبيان ذلك، فدعونا نتوقف مع أهم ما جاء في رد الوزير على السؤال المتعلق بتخفيض أسعار المحروقات. 1 ـ قال الوزير في رده ما يمكن أن نفهم منه بأن موريتانيا لا يمكنها أن تخفض أسعار المحروقات، وبأنه لا يحق لنا ربط أسعار المحروقات في بلادنا بانخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية. بأي منطق يقول الوزير هذا الكلام، وبأي منطق يبيع “رئيس الفقراء” لتر المازوت ب384 أوقية، وذلك في وقت يشتري فيه برميل النفط بأقل من 30 دولارا مع العلم بأن الرئيس السابق ( الضعيف والمعادي للفقراء حسب ما جاء في تبريرات انقلاب السادس من أغسطس) كان يبيع اللتر ب304 أوقية، أي بسعر أقل من سعره الحالي، وذلك على الرغم من أنه كان يشتري برميل النفط في بعض الأوقات ب147 دولارا، أي بسعر يضاعف خمس مرات سعره الحالي. 2 ـ حاول الوزير أن يجعل من زيادة بعض دول الخليج لأسعار المحروقات في أسواقها المحلية مبررا لعدم تخفيض سعر المحروقات في بلادنا. على الوزير أن يعلم، ولا شك أنه يعلم ذلك، بأن دول الخليج تصدر النفط، ولذلك فقد تضررت كثيرا من انخفاضه، ونحن نستورده وبذلك فإننا نستفيد من انخفاض أسعاره. كما أنه على الوزير أن يعلم بأن دول الخليج لا تفرض ضرائب على المحروقات، وإنما تدعمها، وأن ما قامت به هذه الدول في الفترة الأخيرة لا يتعدى كونها خفضت قليلا من نسبة الدعم. أما في بلادنا فإن الأمر يختلف كثيرا، وبلادنا في عهد “رئيس الفقراء” قررت أن توقف دعم المحروقات السائلة، وأن تبدله بضرائب وأرباح مجحفة، ولذلك فلا وجه للمقارنة بين من خفض نسبة الدعم، ومن يطلب منه أن يخفض نسبة الضرائب والأرباح. ثم إن دول الخليج ورغم تخفيضها لنسبة الدعم فإنها لا تزال تتصدر لائحة الدول التي تبيع البنزين بسعر مخفض، ولا تتفوق عليها في هذا المجال إلا فنزويلا أو الجزائر و ليبيا. وعموما فإن سعر اللتر في دول الخليج لا يزال يتراوح بين 60 إلى 90 أوقية، وذلك على الرغم من كل تلك الزيادات. 3 ـ قال الوزير في رده بأنه لا يعرف ما هو مبرر الدول المجاورة في تخفيض سعر المحروقات وذلك على الرغم من أنها لا تتحكم في سعرها في الأسواق العالمية. ما على الوزير أن يعلمه هو أن كل دول العالم تشتري برميل النفط بسعر موحد، ولكن بعضها يدعم هذه المادة من أجل تخفيض سعرها، والبعض الآخر يفرض عليها ضرائب، وهو ما يزيد من سعرها كما هو الحال عندنا، ولذلك فإن تخفيض السعر سيظل ممكنا حتى ولو ارتفع سعره في الأسواق العالمية، المهم أن لا يتجاوز الارتفاع المائة دولار، وهو ما يستبعده الخبراء في هذه الفترة، بل على العكس فإن الخبراء يتوقعون استمرار انخفاض أسعار النفط، ويتوقعون أن يصل سعر البرميل إلى عشرة دولارات فقط. إن تخفيض سعر المحروقات سيبقى ممكنا حتى ولو ارتفعت الأسعار من جديد، والأمر لا يحتاج إلا لأن تقرر الحكومة أن تضحي بجزء يسير من أرباحها الطائلة التي تجنيها على حساب مواطنيها. إن تعنت الحكومة ورفضها المستمر لتخفيض سعر المحروقات جعل موريتانيا تتربع على القمة من حيث ارتفاع أسعار المحروقات، ولم يعد يتفوق عليها في هذا المجال إلا بعض الدول الأوربية بالإضافة إلى دولتين إفريقيتين وهما : الكونغو وجزر القمر. وبالمناسبة فإن موريتانيا وسويسرا في مرتبة واحدة من حيث غلاء أسعار المحروقات، وربما يكون هذا هو التشابه الوحيد بين سويسرا الأوروبية وسويسرا المغاربية. شيء آخر على الوزير أن يعلمه: لقد تعود المهربون في كل الأنظمة السابقة أن يهربوا المازوت من موريتانيا لبيعه في السنغال بحثا عن الربح، واليوم، وفي عهد “رئيس الفقراء” فقد بدأ المهربون يفكرون في تهريب المازوت من السنغال لبيعه في موريتانيا!! 4 ـ استغرب الوزير في رده طرح مثل هذه القضايا الثانوية في وقت حققت فيه بلادنا إنجازا بطوليا ونوعيا من خلال إلقاء القبض على السجين السلفي الهارب. فيا سيادة الوزير إن الإنجاز الذي تتحدث عنه ليس بكل هذه الروعة، فالأمر لا يتعدى كونكم تسلمتم سجينا كان قد تمكن من الهروب من السجن الأكثر تأمينا في البلاد، ومن عبور حدود ثلاث دول، ومن قضاء ثلاثة أسابيع خارج سجنه. وبأي منطق يا سيادة الوزير تقول بأن تخفيض أسعار المحروقات هو مسألة ثانوية، وذلك على الرغم من أن تخفيض تلك الأسعار سينعكس إيجابا على كل الأسر في موريتانيا، سينعكس إيجابا على مأكلها، ومشربها، وملبسها، وعلى تنقلات وأسفار أفرادها. إن تخفيض أسعار المحروقات ـ يا سيادة الوزيرـ هو مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لأي موريتاني، سواء كان غنيا أو فقيرا، رجلا أو امرأة، من النخبة أو من العامة، في الريف أو في المدن. يضاف إلى ذلك كله يا سيادة الوزير أنه إذا تم تخفيض أسعار المحروقات فإن ذلك سينعكس إيجابا على أغلب السلع والخدمات، وفي هذا جواب لمن يقول للمطالبين بتخفيض أسعار المحروقات بأنه كان عليهم أن يطالبوا بتخفيض سعر الأرز أو أي مادة أساسية أخرى. إن تخفيض سعر الأرز هو مسألة في غاية الأهمية، ولكن علينا أن نعلم بأن تخفيض سعر الأرز لن يترتب عليه انخفاض سعر السكر أو سعر الزيت أو أي مادة أخرى، وذلك على العكس تماما من انخفاض سعر المحروقات، ومن هنا تبرز أهمية المطالبة بتخفيض سعر المحروقات. لقد حان الوقت لأن يعلم الناطق الرسمي باسم الحكومة، وتعلم الحكومة من بعده، ويعلم الرئيس من بعد ذلك كله بأنه قد أصبح من اللازم أن يتم تخفيض أسعار المحروقات، وإلا فإن الاحتجاجات الحالية ستظل في اتساع وتصاعد. حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل