القبيلة والدولة تنافر وخصام أم تعاون وانسجام ؟
خلال الندوة التي نظمها مؤخرا مركز البحوث والدراسات الإنسانية حول العلاقة بين القبيلة والدولة ، عالج بعض الباحثين المحترمين ـ مع حفظ الألقاب والعناوين ـ هذه الاشكالية القديمة الجديدة على أساس رؤية سوسيولوجية تقليدية ، وأدوات ثقافية تكرس السردية الغربية وتزدري بالموروث الحضاري للبلاد ، و تصم المجتمع بالتخلف الابدي ، لتعيد انتاج ما يكتبه الانتروبولوجيون الغربيون ، و تتلاعب بالمصطلحات المبنية على فرضيات نشاز كما المعاني والخطاب التابع أو المتماهي .
وقد اعتبر بعض المشاركين في هذه الندوة أن صراعا أزليا سيظل قائما بين الدولة الموريتانية الحديثة بوصفها ” كومبرادور” أي وسيطا ! ، والقبيلة التي جعلوها أشد وطأ في بعض مناطق البلاد ، التي لم يحظ بعضهم بزيارتها ، ولم يتعرف على عادات وتقاليد سكانها .
إلا أنهم لواستخدموا عددا من أدوات البحث وآليات التحليل المنهجية ، ومزيدا من المتابعة والتدقيق ، لأدى ذلك كله إلى تشريح اكثرحداثة ، ربما يسهم في فهم جديد لتلك العلاقة ، التي يصفها الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه العقل السياسي العربي بقوله : إن القبيلة سابقة للفعل السياسي تمده بالطاقة الضرورية له كفعل تضحية وتحريض مثلها مثل الدوافع اللاشعورية التي تؤسس السلوك في نظر التحليل النفسي ، فالقبيلة إذن هي كل ما يرمز للأهل والعشيرة أو التعصب للجنس أو للوطن أو للثقافة أوالتاريخ ، وهي مجموعة الروابط الاجتماعية التي تساهم في تحديد السلطة والحاكم، سواء على مستوى قبيلة أو دولة أو غيرها من الأطر الاجتماعية ، وهي كذلك التي تحدد السياسة وتحسم المواقف أثناء التهديد الخارجي إذ تتدخل العصبية لرده باعتبارها محددا من محددات العقل السياسي.
وهذا يتفق مع ما يعتقده ابن خلدون الذي يقول: ” إن كل أمر نحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية ” ، ومعروف أن ابن خلدون ينظر إلى المسألة السياسية نظرة واقعية ، وقد صاغ في هذا الموضوع نظريته التي تربط الدولة بالعصبية ، وأساس هذه النظرية هي ” أن الملك والدول العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية ” ، أي بتحالف واسع ، قوامه القوى الفاعلة في المجتمع .
ومع أن القبيلة رابطة موحدة الغرض مبنية على التحالف بقدر ماهي مبنية على النسب والقرابة ، وتمثل عقلية عامة مستمدة من الانتماءات والولاءات الوشائجية المنغرسة في اعماق وجدان الجماعة ، فإن للجابري مفهوما أوسع من المفهوم اللغوي ، حيث يقصد بالقبيلة كل القرابات وليس قرابة الدم فقط ، بل إنها كل قرابة لها شحنة عصبية ، مثل الانتماء إلى جهة أومدينة أوطائفة أوحزب ، حيث يكون الانتماء هو وحده الذي نميز به بين الأنا والآخر في المجال السياسي .
وإذاكانت القبيلة تصنع في كثير من الأحيان نوعاً من الوحدة ، فإننا ندرك تماما أن للقبلية المحضة ضررا كبيرا على المجتمع والأمة ، وأن من أخطر سلبياتها أن يتم تقديم الولاء والتناصرعلى أساس القبيلة فحسب ، لذلك من الضروري تجنب العصبية القبلية ، والقضاء عليها ، ومحاربتها بكل الوسائل ، وأن نبرأ إلى الله منها ، فقد حارب الصحابة آباءهم المشركين إلى جانب إخوانهم المؤمنين ، ومع ذلك فإن الروابط الدينية ستزداد قوة وصلابة وحقوقاً إذا كان معها صلة قربى ونسب ، ولعل تحقيق الوحدة القبلية والعناية بها على أساس هذا الفهم من الأسباب التي لأجلها أمرنا الدين الإسلامي الحنيف بصلة الأرحام ، وجعل لنا كثيراً من الأحكام المتعلقة بالقبيلة مثل الميراث والعقل ..
ومع أن القبيلة بصفة عامة قدر كوني ، لأن الله تعالى خلق عباده شعوباً وقبائل ، كما قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” ، فقد نفع الله بها الانبياء ففي الحديث الصحيح ” ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه ” ، لذلك دلت الآية الكريمة التالية على أن الكفار كانوا يخافون من أولياء نبينا صالح عليه السلام ، كما جاء في كتاب الله العزيز: ” قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مهْلكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ” ( ، ولذا لم يفكروا أن يفعلوا به سوءً إلا ليلاً وخفية .
كما أن نبي الله شعيباً عليه السلام قد نفعه الله بتلك العصبية النسبية كما جاء في التنزيل : ” قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطكَ لَرَجَمْنَاكَ “.
أما بخصوص نبينا الحبيب محمد (ص) بأبي هو أمي ، فيقول الدكتورمحمد سعيد رمضان البوطي ، في كتابه فقه السيرة : ” ان كفار قريش أجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلموا في ذلك بني هاشم وبني المطلب ولكنهم أبوا تسليمه إليهم ، فلما عجزت قريش عن قتله (ص) أجمعوا على منابذته ومنابذة من معه من المسلمين ومن يحميه من بني هاشم وبني المطلب فكتبوا بذلك كتابا ..والتزم كفار قريش بهذا الكتاب ثلاث سنوات ..وحوصر بنو هاشم وبنو المطلب ومن معهم من المسلمين في شعب بني المطلب ..ثم إن خمسة من رؤساء المشركين من قريش مشوا في نقض الصحيفة وإنهاء الحصار.. ” .
وبما أن قبائل ما بعد الإسلام قد ربوا أبناءهم على تعاليم الدين الإسلامي الحنيف ، فحري بهؤلاء الآبناء ألا يجتمعوا على ضلالة ، وأن يكونوا عونا لأمتهم على إحقاق الحق ومحاربة الباطل ، وهذا ما تنهجه في الوقت الحاضر القبائل الموريتانية التي تشكل بئة لتدريس القرءان الكريم والعلوم الإسلامية ، والعمل بالسنة المحمدية ، كذلك فإن هذه القبائل كانت ولا تزال تساعد الدولة في الحفاظ على الأمن والسكينة والوقارالاجتماعي ، من خلال حرصها على القيم والثوابت الإسلامية ، وإصلاح ذات البين داخل القبيلة نفسها ، وبينها وبين القبائل الأخرى ، والوقوف بحزم في وجه جريمة أخذ الثار التي كانت أصلا وسببا لكثير من الحروب الطويلة بين القبائل العربية .
وفضلا عما سبق فإن القبائل الموريتانية قد ضربت أروع الامثلة في مجال التكافل الاجتماعي ، وبذلك رفعت عن كاهل الدولة معالجة أغلبية المرضى من الموريتانيين داخل البلاد وخارجها ، كما تكفلت بالنفقة على المحتاجين ممن لادخل لهم ، وخصوصا حملة الشهادات ، والعجزة والمسنين بحيث لايوجد في بلادنا ولله الحمد ملجأ واحدا للمسنين حسب علمي ، وهذا ما يثبت خصوصيتنا الإسلامية .
ومع أن القبائل الموريتانية قدهيأت للدولة أجيالا متعلمة ـ كما تشهد على ذلك نتائج المقاومة الثقافية ـ فإن أبناء هذه القبائل لم يلج الكثير منهم الوظائف الحكومية ، ولم يستخدم معظمهم قبيلته مطية للحصول على الوظيفة حسب ما يزعم البعض ، والسبب في ذلك أن القبيلة ليس لها سلطان سياسي ، ولم يكن سيدها ـ إذا كان موجوداـ رئيسا على تابعين بل كان متقدما على متساوين ، كما أن الحكومات الموريتانية قد ورثت من المستعمر تهميش ابناء القبائل الكبرى والاستعانة بالزعانف ، بل إن الاستخدام الرخيص للاحزاب السياسية والتزلف للسلطة السياسية في البلاد ، هو الأسلوب الأكثر استخداما من طرف الراغبين في وظائف الدولة الكبرى .
وأخيرا فإن موضوع القبيلة في موريتانيا وما شاكله من الموضوعات المحلية المتغيرة ، التي تحتاج إلى أدوات البحث الضرورية ، من قبيل الزيارات الميدانية والمقابلات والمعايشة والملاحظة ..ماكان ينبغي أن يستخدم لترويج (مبدأ) ولا شخصية وافدة ، لأن ” أهل مكة أدرى بشعابها ” ، بل يمكن أن نسأل تلك الشخصية ـ إذا كان لابد من سؤالها ـ عن : ماهو الضررالناجم عن عدم التكافل الاجتماعي بين المواطنين الغربيين ؟ أوماهي أسباب كثرة الانتحار في الغرب ؟ و ماهو سبب تفشي ظاهرة العنصرية في تلك البلاد ؟ وهل يمكن وصف المجتمع الغربي بأنه متحضر، أم أنه متمدن فحسب ؟.
باباه ولد التراد