هل يستوي من أكل بعمل يده مع من تغذى بتعب غيره؟
إن العمل ديدن الصالحين وطريق المؤمنين الذين آثروا الكسب الحلال على ذل السؤال ، فالإسلام دين لا يعرف البطالة والخمول والتسول ، بل هو دين العمل والجد والغنى ، ولكن عن طريق الحلال لا عن طريق الحرام. وكثير من الآيات والأحاديث جاءت بالحث على الكسب ، وتدعو إلى العمل والسعي في طلَب الرزق؛ فقد جاء في القرآن الكريم :
﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ ، وقال تعالى :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ ، فالعمل هو الحياة الكريمة ، لأنه يحرر الفرد من التبعية ، مع أن كل عمل صالح سواء كان دينيا أو دنيويا ، يؤجر العبد عليه طالما أخلص فيه وقصد وجه الله تعالى ، وحقق من خلاله مصالح شخصية أو مصالح عامة تساهم في قضاء حوائج الناس. وقد خفف الله سبحانه عن عباده قيام الليل ، من أجل انشغالهم بالعمل نهارا، كما جاء في التنزيل:(.. فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله) ، ومع ذلك فقد وجدنا في هذه الاية دليلا آخرعلى أن الإسلام ينظر إلى العمل نظرة احترام وتكريم ، لأن الإسلام قد قرن العمل بالجهاد. وفي الحديث الشريف : ” لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأل النّاس أعطوه أو منعوه ” ، و” أطيب الكسب كسب الرجل من عمل يده” ، ولقد حث الإسلام علي محاربة الكسل ، “فالجلوس عقيم لايلد إلا الفقر” ، وقد أخبر الله تعالى عن داود أنه كان يصنع الدروع ، فقال جل من قائل :(وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِيحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) ، وهذه الآية دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب، فالسبب سنة الله في خلقه ، وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع بأن العمل شرف ، واتخاذ الحرفة كرامة ، ولقد قيل: ” صنعة في اليد أمان من الفقر” ، لذلك فالإسلام يحفز على العمل ، ويدفع الناس إليه، كي يعيشوا في عزة وكرامة ، ومع ذلك ترك لهم حرية اختيار العمل البدني أو الذهني إذا كان مشروعا ويخدم المجتمع، ويدفع بالأمة إلى طريق التقدم والرقي . وقدعمل الأنبياء والرسل بمهن ، وحرف ، ووظائف مختلفة ، طلبا للرزق الحلال ، ولكي نقتدي بهم ، قال تعالى 🙁 وما أرسلنا من قبلك من المرسلين إلا إنهم لياكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) ، يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: أي يبتغون المعاش في الدنيا ، وهذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك ، ويقول سبحانه وتعالى على لسان ابنة الرجل الصالح شعيب حين طلبت من أبيها استِئجار نبيِّ الله موسى عليه السلام :(يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ) ، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ” ما بعث الله نبيّا إلاّ رعى الغنم . فقال أصحابه : وأنت؟ فقال :نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة “. ومع ان داود عليه السلام كان يصنع الدروع ، فقد أخبر نبينا صلّى الله عليه وسلم أنه كان يأكل من عمل يده ، ففي الحديث الشريف ” ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ” ، وقد دل هذا على أن العمل كان منهج الأنبياء والصالحين، وطريق المؤمنين الأقوياء. واستنادا إلى هذا كله فإنه يجب على الشباب في موريتانيا وخصوصا اؤلئك الذين ينظرون إلى المهن والحرف المحلية نظرة ازدراء ، ويعتقدون أن بعض المهن دنيئة كالنجارة ، والحدادة ، والرعي .. ، أن يغيروا رأيهم ، بعد أن تأكدنا من ثبوت هذه المهن والأعمال ، لخيرة خلق الله ، وهم الأنبياء ، والرسل ، عليهم السلام . وإذا كان للحرف والمهن المحلية دور أساسي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، وتوفير فرص العمل للجميع ، فإن الترفع عنها يفتح الباب واسعا أمام العمالة الأجنبية ، التي سيكون همها الوحيد هو الاستحواذ على خيرات البلاد . ومع ذلك فإن الحكومة ستبقى دائما هي المسؤولة بشكل مباشر عن تغيير عقليات الشباب ، وهذا يتطلب من الدولة الاسراع في اتخاذ سياسات حكيمة وجادة ، تعتمد من بين أمور أخرى : فرض العمل الحرفي والمهني على المترشحين للوظائف قبل ولوج أي وظيفة ، على غرار التجنيد الاجباري عند بعض الدول ، مع اتباع منهج صارم يتعلق بالتوجيه ، والتعليم ، والمغريات ، والثواب والعقاب ، والوقوف بحزم أمام المنافسة الاجنبية للعماة المحلية . وإذا كان بالصنعة يكف الإنسان نفسه عن الناس ، ويدفع بها الضرر والبأس ، لأن الفقر مذلة ومرض اجتماعي خطير، يضر بالمصلحة العامة ، وأن الأمة كذلك تكون قوية بقوة أفرادها ، وضعيفة بضعف أبنائها من المتسولين أوالذين يترفعون عن العمل ويتغذون من تعب غيرهم ، فإن على شعبنا الأبي أن يتوجه إلى العمل بكافة أشكاله ، وسواء كان فكريا أويدويا ويسعى لمرتنة الحرف والمهن في بلادنا ، لأن ذلك سيدر على المواطنين أموالا طائلة ، ويساهم في تغذية السوق بمواد محلية تستقطب الزبائن وتستجيب لرغباتهم ، خاصة إذا كانت تحمل طابعا تراثيا وحضاريا . وقد يفهم بعض الموريتانيين خطأ أن الإسلام يدعو إلى الفقر والزهد وعدم العمل ، وهذا فهم سقيم ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: ” إن الله يحب العبد المحترف ” وقوله ” طلب الحلال فريضة بعد الفريضة ” و” من أمسى كاَّلا من عمل يده أمسى مغفوراً له ” ، فالمسلم مطالب بأن يأكل من الحلال ، وإذا أنفق فعليه أن ينفق من طيبات ما كسب . غير أن البحث عن المال لايعني أبدا الجشع والتعدي والظلم ، وإنما يجب في ذلك كله امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، فقد حث الدين الإسلامي على القناعة والإجمال في الطلب وعدم التكالب على الدنيا ، فإن الجشع قد يدفع صاحبه إلى التعدي على الآخرين وظلمهم ، إرضاء لشهوة المال وجمعه
باباه ولد التراد