خواطر حول معوقات قيام الدولة الموريتانية…………./د. الشيخ المختار ولد حرمة ولد ببانا
من اللحظات السعيدة، هي تلك التي شرفتني فيها مجموعة من أساتذة الجامعة بزيارة كريمة، مهنئين اعتزالي العمل السياسي.ومن الجمل التي استوقفتني هي قولهم: نثمن قرار اعتزالك العمل السياسي لكن رغبتنا إليك ملحة أن لا تنقطع عن كتاباتك الممتعة من أجل التنوير حول مصلحة البلاد. كانت هذه لحظة تكريم و شهادة لا تنسى بالنسبة لي.
طمأنتهم أني إذا كنت قد أعلنت اعتزال العمل السياسي ، فقد أعلنت في ذات الوقت أني لم أعتزل العمل الوطني و سأبقى مهتما و متابعا للأوضاع الوطنية و العربية، معلنا عن موقفي عند الاقتضاء و لدى المفاصيل الهامة من حياة الأمة، بما ينسجم مع مبادئي و قناعتي، و متى أرى أن واجبي الوطني و القومي يحتم ذلك، بعيدا عن الأغراض السياسية و التخندقات الضيقة. وفي هذا السياق، أعلنت أنني “وبحول الله، سأواصل سلسلة مقالاتي التي أسعى من خلالها لإثراء النقاش الفوقي الحر حول مصالح بلادي وأمتي”.
هكذا، بعد فترة من الكتابة، دامت عدة أشهر، أنشر الحلقة الرابعة من سلسلة “السهل الممتنع” هدية اعتبار و تقدير لهؤلاء الإخوة الكرام و لكل من يجد متعة أو فائدة في قراءة ما أكتبه.
“البيظان” ومشكل الصحراء
مـرّ ما عرف بـ”المؤتمر الرابع عشر” لجبهة “البوليساريو” مرور الكرام، اجتماع على أرض جزائرية، وإعادة انتخاب نفس القيادة، وحضور نفس الوجوه من داعمين داخليين وخارجيين.. لا شيء جديد في المؤتمر كسابقه.. اللهم إلا إذا كان المؤتمر عقد هذا العام في فصل الشتاء.
إن المنطقة على مقربة من مرور نصف قرن على هذا الصراع الذي فرضته البوليساريو، أو رعاتها الخارجيون على أدق تقدير وأوحده. صراع أجهض مشروع الاتحاد المغاربي وارتهن مصير المنطقة التي ما تزال تدفع ثمنه باهظا…
فشل مشروع الحرب، ومن فشلوا في خيار المواجهة لم يذعنوا للواقع ويمتلكوا من الشجاعة ما يجعلهم يواجهون استحقاقات السلام و بدائل المصالحة… “و إن جنحوا للسلم فاجنح لها”… “و الصلح خير”.
لقد صارت “البوليساريو” جبهة انتفاعية لمجموعات أسرية، على مستوى معين. أما على مستوى اللعبة الأكبر فإن فشل الجبهة في الحرب، أفقد الحاضنة الجزائرية القدرة على خلق بديل، لأن البديل المنطقي والوحيد المعقول هو الانسحاب من “وكر المشاكل” والتأكد أن “تعمير الصراع” والمشكل الصحراوي كله، لن يمكّن الجزائر من موطئ قدم على الأطلسي.. وإنما سيستنزفها أكثر، ولو لنصف قرن آخر.
إنه العناد..! لكن مع من و إلى متى؟
إن مشكل الصحراء أصبح اليوم يرد في الأحاديث أكثر من أي وقت مضى عند الحديث عن “أزمة البيظان” في منقطة الساحل العربي الإفريقي.
إن أنصار “البوليساريو” يروجون ادعاءات تفيد أن “الصحراء” هي دولة البيظان المستقبلية.. وأنه من أجل ذلك لا بدّ من تحريرها… لا بدّ من دولة مستقلة خاصة بـ”البيظان”.
يذهبون أبعد من ذلك حين يقولون إن “السود” ابتلعوا موريتانيا التي لم تعد دولة للبيظان.. هذا الطرح يتجاوز درجة السخافة و اللؤم، بل الجريمة حين يصل مرحلة الفصل بين البيظان و الحراطين.
إن انفصال البيظان عن الحراطين هو أمر مروع لمستقبل البلد و مستقبل شريحة الحراطين ذات الارتباط الذري بجذورها العربية دما وثقافة..
إنه تخل غير حضاري عن جزء من أسرتنا الشخصية، جزء من تراثنا، تاريخنا، نسبنا، ثقافتنا، وجداننا.. في هذا الفضاء الصحراوي.
إن شريحة “الحراطين” جزء يستحيل أن يتجزأ من وجدان الإنسان العربي في هذه الصحراء الممتدة من واد نون إلى العراق..
أما مشكل الزنوج الأفارقة الموريتانيين، فهو مشكل لا يحتاج إلا إلى قليل من العدالة، قليل من العدالة والصراحة مع الأهل وشركاء الجغرافيا والتاريخ.
إن الفضاء “البيظاني” موزع بين تسع دول عربية وإفريقية في منطقة الساحل.. لكن مكْمن “صناعة القرار” في هذا “الفضاء الشرائحي” هو ثلاث دول فقط (موريتانيا، المغرب، الجزائر).
لقد كان دور هذا الفضاء وعلاقاته التأسيسية معروفة.
تاريخيا، كان “البيظان” مصدر الإلهام الفعلي لما آل إليه الشكل الدولتي والروحي للغرب العربي الإفريقي.. حسنا، كيف؟
أولا، تمكن “البيظان” من تأسيس أول دولة مركزية في منطقة المغرب العربي (دولة المرابطين).
الطريف أن هذه الدولة قامت بأول حرب قارية من الصحراء (نجدة عرب الأندلس.. قبل 900 عام).. ففي 23 أكتوبر 1086م قاد يوسف بن تاشفين الصنهاجي اللمتوني أول معركة كبيرة شهدتها شبه الجزيرة الأيبيرية في العصور الوسطى، وإحدى أبرز المعارك الكبرى في التاريخ الإسلامي. واللافت هنا من ما لا يتم ذكره كثيرا هو أن المرابطين لم ينتصروا على جيش إسباني فحسب، و إنما انتصروا على جيش أوروبي كبير احتشد من أرجاء أوروبا، وإن كان بقيادة إسبانية.
ثانيا، نحو الجنوب بسط “البيظان” نفوذهم الروحي فاتحين بلدان المنطقة دينيا و روحيا دون الحاجة لحروب. و هنا تجدر الإشادة بالدور الحضاري و الدعوي الإسلامي البارز الذي اضطلع به الإمام نصر الدين بالغرب الإفريقي المسيحي الوثني آنذاك.
بين النفوذ الروحي والعامل الإداري المؤسسي كان طبيعيا أن يبقى المجال الصحراوي “مجالا رعويا”.. إلى حين شاء الاستعمار أنْ يقطع هذا المد الديني و الروحي و الثقافي المزعزع لأركانه و كيانه و يربط بين مستعمراته الشمالية و الجنوبية.
لكن، وفي هذا الفضاء، سنجد أن ملوك المغرب (المنحدرين منْ أصول بيظانية من جهة الأمهات)، شكلوا مرجعية حكم للبيظان عبر القرون اللاحقة للتأسيس الدولتي الأول.
ليس هناك حاجة لنقاش هذا المعطى التاريخي.. كان “البيظان” جزء من المغرب وإن كان جزء له خصوصيته الاجتماعية والثقافية بفعل سكناهم للصحراء المفتوحة.
هناك “شرعية مغربية” على فضاء “البيظان” تتجاوز العلاقة التبعية التاريخية والجغرافية إلى “علاقة الدم” بين ملوك المغرب وأخوالهم البيظان وقبل ذلك بني عموتهم (قرشيون جزما).
ليست هنالك أي شرعية منازعة في هذا المجال.
إنما لندع الآن سجلات التاريخ في فعلها الماضي.. فغبار سجلات التاريخ ـ خلافا لطبيعة الغبارـ يوضح الرؤية ولا يطمر عليها.
ولنسألَ عن المستقبل..! و لنتكلم عبر بعض المعطيات عن المشكل العرقي و الشرائحي الذي يهدد كياننا بالتفكك و الاضمحلال:
المشكل العرقي
كانت الإحصاءات التي أجريت غداة الاستقلال للسكان الموريتانيين، منها ما هو تحت إشراف الأمم المتحدة، قد بينت المعطيات التالية: عدد السكان 1.5 مليون نسمة. البيظان (و لم يفرق بين بيظان و حراطين): 80%، الزنوج الأفارقة (البولار، السوننكي ، الولف، بمبارا): 20% (1) ، (2) في أول جلسة وطنية لتحديد هوية الدولة، بدأت رحلة الإقصاء.. فحسم المستعمر الخلاف وأطلق على الكيان الخديج “الجمهورية الإسلامية الموريتانية”. بعدها بفترة وجيزة رفض أعوان المستعمر وموظفوه حق الأغلبية في التدريس بلغتها العربية. لغة التواصل قبل الاستعمار. ما حدث في 1966، تكرر مرات، معززا بتطرف موجات المهاجرين ، وأصبحت البلاد على شفى حرب أهلية بداية الثمانينات مع تشكيل جبهة عسكرية (أفلام)، وهي التي تشكلت في حاضنة خارجية معروفة. تم جر البلاد إلى مأساة 1989 العرقية، بقرار خارجي اتخذه مجرد فصيل معارض في دولة مجاورة. بسبب ضعف جهاز الدولة، كان البلد يبدو مستباحا و كان أي شخص حتى من وزن رئيس حزب سنغالي معارض قادر على فعل ما فعل، بل وأكثر من ذلك لولا التدخل العراقي الحاسم وقتها. وضعت الحرب أوزارها بين الجارين الشقيقين بعد أن حسم السلاح العراقي ميزان القوة لصالح موريتانيا – دون اللجوء لطلقة نارية واحدة- . إذا كانت أحداث 1989 قد بدأت شرارتها بمشكل بين مواطنين زنوج من السنغال وموريتانيا، لتتحول بسرعة خاطفة إلى أحداث عرقية بين العرب والزنوج، ليتم قطع العلاقات بين السنغال وموريتانيا، ثم تبدأ الدولتان المفاوضات لتسوية الأزمة بناء على التعويض وحق العودة، فإن هذه المفاوضات تحولت إلى إعفاء الجانب السنغالي نهائيا من المسؤولية، و إبقاء موريتانيا وحدها في قفص الإدانة وتحميلها لوحدها الفاتورة كاملة في الملف.. كيف خرجت السنغال ب”يد بيضاء بريئة”، لتبقى موريتانيا وحيدة في ساحة الجريمة؟ الجواب بديهي… لأن للسنغال دولة ترعى و تحمي مصالح بلدها و شعبها… من المهم الإشارة إلى نقطة أهملها الكثيرون: بعد نحو ثلاثين عاما من القتل والتسفير والتهجير المتبادل ندفع فاتورته إلى اليوم، فإننا منذ ذلك التاريخ، لم نتفاوض مع مواطنينا الزنوج الأصليين مفاوضات جدية لتجاوز هذا الملف، فكل محطات التسوية اللاحقة (1991، 1997، 2007، 2008، 2010) تمت بالمفاوضة مع السنغال، وتحديدا في دكار وبشهود من المجتمع الدولي.
لقد اعترف صانع القرار الموريتاني رسميا بـ”ولي أمر” خارجي على شؤون جزء لا يتجزأ من مواطنينا وشعبنا. و”ولي الأمر” هذا يحرك هذا الملف ساعة شاء، وحيثما كانت مصلحته.. حتى ولو كان في الحصول على الإذن لزورق صيد في مياهنا الإقليمية. عام 2010 بعد التظاهرات الدامية لحركة “لا تلمس جنسيتي” وقيامها بحرق الرموز الوطنية، لم تفاوض الحكومة الموريتانية مواطنيها، بل أرسلت وزير النقل إلى السنغال الذي وقع اتفاقية بعودة 6000 عائد، وتم الاستسلام للسنغال في ملف النقل البري، وكذلك فعلت وزارة الصيد حين لوحت الحركة بالتحرك لاحقا. إن كل اللقاءات والحوارات والمعالجات لهذا المشكل لن تكون ذات جدوى، ما دمنا نعبر النهر لنحاور دولة أخرى على شؤون مواطنينا ـ حتى لو كانت دولة شقيقة و حبيبة إلى قلوبنا ـ.. بدل محاورتهم هم.. والاستجابة لكل مطلب مشروع لديهم.
المشكل الشرائحي
إنه يصعب الآن على أي مفكر أو مثقف موريتاني تقديم إجابة شافية على سؤال واحد من الأسئلة المطروحة بإلحاح من قِبل العامة قبل الخاصة: من يحرك الحراك الشرائحي؟ و إلى أين يتوجه و لفائدة من ؟ كل ذلك تحت ظل السؤال الكبير ما هو مستقبل الكيان الوطني في خضم الحراك الشرائحي الجارف؟ الحقيقة أنه ليس “ظلا” بقدر ما هو دخان كثيف وكريه الرائحة ومزعج، ويخيف من حجم الحريق الداخلي.
نعم. يصعب التفكير في مجتمع تختل وضعيته كلية ، ولا يمكنه التوازن في غياب نوابض تمتص الاهتزازات.
أول ما يثير الانتباه، بل يسبب الصدمة، هو توجه الحراك الشرائحي نحو تحطيم الملاذ الحضاري الوحيد و عامل اللحمة الأبرز الذي لا خلاف عليه بين هذه الساكنة و مكوناتها منذ القدم.. إنه الدين الإسلامي.. يجري الآن بشكل مريع الحفر والتنقيب في أساسات خطيرة جدا من أجل ربط الدين الإسلامي بوجود العبودية في هذا البلد، دون أن يكلف أولئك أنفسهم بطرح سؤال عن أسبابها في كل أمم وديانات العالم وملله ونحله وفلسفاته منذ القدم.. تلك فترة انقضت أو يخيل ذلك.. لكن الحفر عنها في موريتانيا وحدها أمر غير سليم وبعيد من البراءة.. إن كيانات المجتمع الموريتاني اليوم مفككة و يسودها خطاب الحقد والكراهية و الانتقام الأعمى، وكأني بفشل أي “إغراء” يمكنه إعادة الوئام إلى المفكك، فالشعوب هي الأصعب التئاما عندما تتخذ شروخها صفة زجاجية. إن التعايش والوئام الاجتماعي يقترب من عبور مرحلة التحكم فيه.
في هذه اللحظة يمكن لأي أسرة من أي شريحة أن تشعل نار الحرب الأهلية، وستكون الأسوأ في تاريخ المنطقة كلها، وسوف تجد القاعدة و”داعش” واقتصاد عصابات التهريب أفضل ملاذ آمن في الساحل، يمكنها منه إيذاء أمريكا وأوروبا أحرى الدول المجاورة. إن الإرهاب ينتقل بسرعة بين دول الساحل، من شمال مالي إلى ليبيا، ولعل الصحراء الموريتانية أكثر إغراء لأن “دواعش” الإرهاب لا بد أن يمتلكوا موطئ قدم على الأطلسي، وهذا سهل قياسا لدولة الخلافة التي أعلنوها في العراق والشام.
أخشى ما أخشاه أنه لم يعد أمامنا في موريتانيا ممر مفتوح لنعبر من خلاله إلى المستقبل الآمن، ومن فقد الممر المفتوح لا بد أن يواجه الصدام. هذه هي النتيجة المنطقية لألف سنة من غياب الدولة، وأكثر من قرن من الزمن من الرضا بسياسة التدمير الذاتي، التي برمجنا عليها الاستعمار الفرنسي، وبرع أعوانه في ترجمتها و ديمومتها لاحقا عن وعي و إصرار.
إذا تفاقمت الصراعات داخل المجتمع فانظر إلى الجغرافيا قبل أن تعيد قراءة التاريخ، وهذا ما أريد النخبويين الوطنيين التفكير بالعمل على أساسه، فالكيان الوطني لم يعد أرضا محايدة للخلاف والاختلاف والتنوع المثمر والمفيد، لقد نضجت ثمرة الانسلاخ من القيم ومن الكيان ليتحول إلى منطقة مستباحة حتى في المشاريع الفردية.
إن “القلق” المتنامي في صفوف بعض نخب “البيظان” على مصير الشريحة كانَ مصدره دول الجوار و”إسرائيل”، “بداية” ثم لاعبون محليون “لاحقا” ، بدت لهم البلاد مستباحة في ظل هشاشة مؤسسة الدولة، فاختلطت عليهم الألعاب “البهلوسياسية” واللعب بالنار…
لقد أصحبت الأزمة العرقية و الشرائحية في مستوى لا يمكن معالجته بالمهدئات ولا بالحوارات النمطية الاستهلاكية، لأن التراكم عبر خمسة عقود على هذا المشكل تجاوز مستوى الشرخ، أو الفتق الذي يمكن رتقه، إلى جسمين منفصلين مستقلين عمليا.. يتخذان اليوم شكلا سيفيا.. خنجريا قاتلا.
بالتأكيد لسنا وحدنا في هذا العالم.. لكن باستعراض “بؤر التنوع” في دول العالم هناك ثلاثة نماذج لا رابع لها:
النموذج الأول (الناجح)، الذي من خلاله تمكنت “الدولة” من تجاوز استقطاب الهوية (البرازيل مثلا)..
النموذج الثاني، هو نموذج الدم والدموع، وقد فشلت كل الإرادات من حروب وحوارات في تجاوزه، ونجح لأسباب معروفة في التقسيم (السودان مثلا).
النموذج الثالث، وهو استقطاب هوياتي محكوم بعوامل جيواستراتيجية و ديمغرافية، مكنت الدولة من الصمود في وجهه (أقاليم: التبت، كاسمانص، أزواد..).. لكن الدولة ما تزال تكتوي بجمره، ولا أحد يعرف متى يؤدي إلى الاشتعال.
إلى أي نموذج ننتمي نحن؟
إن الحديث عن ضمان للوحدة الوطنية عبر القواسم المشتركة بين فئات الشعب، أي شعب، من دون وجود دولة حامية، أمر مضحك، ومغالطة ديماغوجية.. فإرادة الحروب الأهلية إذا حصلت تتجاوز كل مشترك ديني أو عرقي أو حتى قبلي وأسري.. لننظر قريبا منا فحسب: في جمهورية وسط إفريقيا، كان العامل الديني حتى بين الأشقاء من عائلة واحدة هو محفز الحرب، في مالي كان العامل العرقي، في رواندا كان العامل القبلي وتم تحييد الدينين: الإسلامي والمسيحي، في العراق، سوريا، اليمن، كان العامل “المذهبي السياسي”، في ليبيا العامل السياسي الأيديولوجي… إلخ. في كل هذه البلدان من القواسم المشتركة بين شعوبها ما يفوق الحصر، لكن الحرب الأهلية مسألة أنانية شخصية غالبا، وقد لا تحتاج حتى إلى سبب وإن كان المؤرخون يحرصون دائما على ملء كل الخانات.. ففي جنوب السودان المنفصل حديثا بعد حرب الخمسين عاما، ها هي أبشع حرب أهلية تجري بسبب خلاف بين رئيس ونائبه، تحول إلى خلاف بين قبيلتيهما، ولن يتوقف نهر الدم وتلال الجثث قريبا وفق التقارير الميدانية.
وفي موريتانيا، بعد خمسين عاما على أول خلاف على “اسم” الدولة، تطور إلى قاموس الدم والتهجير و الملاعنة العرقية، ها هو المشكل الشرائحي يطل خلف أكثر من قناع حقيقي وتنكري، أجنبي وداخلي، والمخيف أكثر أن موريتانيا لا تتوفر على أي بنية تحية متكاملة إلا البنية التحتية للحرب الأهلية، حيت التشرذم العرقي والشرائحي والقبلي والتدهور الاجتماعي والإفلاس الأخلاقي، والانحطاط الاقتصادي، والترهل الجيني الموروث في نخبة صناعة القرار السياسي، وغياب أي أفق واعد بوضع حد للتدحرج المريع نحو الهاوية البركانية.. والهاوية بطبعها لا ترفض الوافدين.. كما لا بحر يرفض الغارقين.
لا أعتقد والحال هذه أن متتاليات الحوارات النمطية، والإجراءات الإدارية العبثية المشلولة، والتغني بشعارات المجاملة، والتنظيرات الحالمة، يمكنها تدارك الوضع المتردي المتعفن الذي يسير بسرعة فلكية ساحقة.
إن هذا ليس صراخا، ولا تهويلا، و لست من هواة السيناريوهات الافتراضية و لا التهويلية.. لكن ما يمكنني الجزم به، ويشاركني في ذلك عقلاء السياسيين من مواطني هذا البلد، أن اللحظة الحاسمة في تاريخ “اللادولة” تقترب من محطة النهاية. إنه واقع معاش على الأرض، لا يخفى إلا على من أردم رأسه في التراب. فمن المؤكد أن العاصفة تشكلت وأن السؤال هو عن توقيت وصولها.. يقلق ذلك حتما من لا سقوف لهم. وهم هنا الجميع بدون استثناء.
ماذا يمكن فعله؟
لا شيء في ظل الأرضية الهشة العامة و حنظلية الواقع الذي تتخبط فيه الأمة والبلد، ونمط التفكير الذي نسمع عند “وجهي النخبة”… تتحدث الموالاة عن “الإعمار و الازدهار”. وتتحدث المعارضة مخيّـرة بين “الحوار أو الانفجار”. و الأمة المسكينة في بلدها التعس المطحون بين هذين الفكين تقترب كل يوم أكثر من شفا الهاوية التي “ليس لها من دون الله كاشفة”.
إنني أيها السادة، أشعرُ أننا في لحظة حاسمة.. آخر لحظات الحقيقة القائمة.. قبل أن تفرض حقيقة جديدة وجودها.
لا شيء اليوم يمكنه مطلقا جعلنا نتفادى الكارثة سوى التعويل على فضل الله و رحمته. “قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا، هو خير من ما يجمعون”. وسيكون من ضياع الوقت أكثر محاولة ترميم سقف على أسس مهترئة، و الهروب إلى الأمام عبر التفكير الساذج في لم شتات البيظان عبر إقامة دولة خاصة بهم. إننا ، كمن يصنع أحذية من الزبدة لأقدام في أرضية رمضاء مشتعلة. كيف توفق شرذمة قليلة حيث عجز المستعمر “كبولاني”، قبل قرن من الزمن، و هو المدعوم بسلطة الإمبراطورية الفرنسية؟
إن الغالبية العظمى من شعبنا تعيش في بيوتها على الحديث اليومي عن حتمية الصدام والفوضى. عندما يكون المواطنون البسطاء في بيوتهم يعيشون كوابيس مع انفجار كل إطار سيارة، أو إطلاق ألعاب نارية، أو جريمة قتل أو اغتصاب، وتتحول 300 وسيلة إعلام ورقية و الكترونية و تلفزية وإذاعية إلى ساحة لمراسلي الحرب وقادة الميلشيات الفئوية، فإن ذلك مؤشر إلى ما ذهبنا إليه.. وهو ليس سوى بداية العد التنازلي لدخول “الثلاثي الشمعي” (الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وأمريكا) رسميا وعبر كل الوسائل على خط أزمتنا العرقية و الشرائحية، وبطريقة وصلت إلى حدود أسلوب “الإملاء” و”الأوامر”: ((كلفني الرئيس أوباما بحل مشكل العبودية في موريتانيا… موريتانيا تعيش وضع حرب أهلية)). هذه تصريحات سفير أمريكا الحالي بين ظهرانينا بعد اجتماعه بقادة أحزاب عرقية ومنظمة عنصرية.. السفير، الرجل الذي واكب صناعة مأساة “دارفور” يدرك ما يقوله، ويقصد الهدف مما يقوله.
إن التعايش السلمي بين الموريتانيين حتى بشكله التظالمي، يوشك أن يكون ذكرى من الماضي الجميل الآسر.. والمؤسف أن أحدا لا يتحرك إلا سلبا في اتجاه العاصفة، أو مفجر القنبلة. حتى عقلاء السياسيين الذين شاطرتهم الحديث في هذا المجال، لا يملكون أي رؤية عما سيحدث، ولا كيف يتم تلافيه، أو التخفيف من أضراره، ولا يعرفون حتى إلى أين يسير البلد في المستقبل القريب، في عهد أصبحت فيه الشعوب كالأعاصير تتحرك فجأة وتدمر كل شيء في لحظة.. حتى بسبب تدوينة لمعتوه في أحد مواقع التواصل الاجتماعي.
إن الحروب، التي يروج لها “الأعداء” المفترضون، هي حروب إن حدثت ستصبّ نتائجها لا محالة عكس ما يتوقعونه. غير أن “البيظان” ليسوا بحاجة لدخول الحروب وارتكاب المجازر والأعمال الوحشية لإثبات سيادتهم على فضاء يخشى أنه لا أحد سواهم يقبلُ السكن فيه أحرى تعميره.
إن مجتمعنا الريفي بواقعه وطبعه اعتاد على تبادل موسمي الخريف والصيف.. لكن في زمننا السياسي فرض الجدبُ الدولتي نفسه فصلا وحيدا لزمننا.. وهو الآن ينذر بالحريق والاضمحلال.
ما من شكّ أنَ مسعري الحروب كُثر في هذا الزمن العربي الإسلامي الذي لسنا بحاجة للحديث عن حساسيته.
إن المنطقة العربية تمر بوضع كارثي: حروب، مذابح الصبية الرضع والشيوخ الركع… الطوائف والملل والنحل والهجرات، وتغيير الحدود، والتدخل الخارجي، وتناسل جماعات العنف الغبي من داعش والقاعدة و”دول الخلفاء الأغبياء”، الذين يدمرون أمتهم لأغراض لا تخدم غير العدو في جوهره البذيء.
يضاف إلى ذلك في منطقة الساحل، حيث فضاء الشريحة، تهريب المخدرات والأسلحة وانتشار الفقر، و تفقير القيم، واستحواذ ثقافة الوافد السطحي الاستهلاكي… وغير بعيد من ذلك كله “النمط الأسري الاجتماعي” الذي يصبّ في خانة “الإبادة الذاتية”، إن صح التعبير، عبر العزوف عن الزواج والإنجاب.
خلاصة
قبل كل شيء نقرّ أننا أمام تحد كبير، إذ تراكم الخلل قرونا من الزمن، و لم يعد لدينا مزيد من الوقت .فالوضع أصبح يتطلب معالجة سريعة، آنية، واعية، حكيمة. فإما المبادرة إلى تغيير المصير و المسار من أجل إعادة تأسيس شجاعة وحكيمة للدولة، وإما الاضمحلال لا قدر الله”.
اضمحلال يمكن أن نتقيه بمنافذ جد محدودة، وليس بأنصاف الحلول، ولا أرباع التخمينات.. بل بصيغ استثنائية، قد تكون للوهلة الأولى غريبة على التصور المحلي الآني، الذي يركز على الكراسي و المنافع. فقد انتهت صلاحية “الدولة الاسمية” المجازية و أزفت نهايتها بعد خمسة عقود من الزيف و المغالطة و الفساد، ولا مناصَ من مواجهة التاريخ عندما تشحذ الجغرافيا قرونها التي لا ترحم.
إنّ القلة عبر التاريخ هم منْ نجحوا في تغيير مصائر شعوبهم وبلدانهم، لدرجة أن تلك “القلة” صُنفت أفكارها في البداية ضمن الجنون. ذلك أن العبقرية كالجنون، هي الخروج على واقع الحياة بالنسبة “للواقعيين”، لكنها خلاف الجنون هي في الحقيقة مسعى لخلق واقع لائق وقابل للاستدامة والتطور.
إن الذين ارتضوا واقع البلد سوف يدمنونه لدرجة أنه يصبح “معتقدا” بالنسبة لهم، وهم أول من يرتعب من “شجاعة التفكير” ويندحر أمام روح المبادرة الخلاقة. ذلك أن ولعنا البدوي بالترحال، يقابله تمسك أصيل بالجمود الذهني السياسي.. إنها “إدارة الممكن”، التي هيأت عقلية النخب منذ ألف عام للاندحار أمام فريضة قيام الدولة.
أخشى أن النخبة العسكرية الموريتانية الحالية لا تولي هذا المجال الاهتمام الكافي.. أخشى أنها غير متعجلة في الأخذ بزمام مسار حتمي.. مسار إما أن نَحصلَ عليه بالمجان وبيسر وسهولة و إما أن ندفع تكاليفهُ.
لمن يعنيه الأمر.. ” كل النساء قد يلدن الذكور…لكن المواقف وحدها تلد الرجال”. إن الرجل الذي لا يجرؤ على “التحرش” بالأحداث و الجغرافيا لا يجري لمستقرّ له و لن يدخل التاريخ إلا كما يلج الجمل في سم الخياط