مُلْتَمَسٌ بِأَحْسَنِ المَخَارِجِ لِلشَّيْخِ حَسَن التُّرَابِي…
تَلقيت سماعا منذ ما بعد المراهقة أشياء مما سارت به البُرُدُ من آراء وأقوال الشيخ حسن الترابي، يتنازعها الموقفان المتطرفان من الرجل قبولا ورفضا، فقررت التَّلَقي مباشرة منه، فقرأت له وسمعت منه بالصوت، فـ “الكلام من فَمِ صاحبه أحلى”.. عند سماعي أول مرة لكلام للشيخ الترابي يعترض فيه على أحاديث الدجال، ونزول عيسى، وخروج الدابة، وعذاب القبر طارت نفسي شعاعا منه..
لكني لم أزل بها حتى رددتها على مكروهها في ساحة التوسط والإعتدال، فأرجعتها إلى التعمق في القراءة والسماع من جديد للرجل.. كنت كلما تلاقت أنفاسي بحرارة النَّفَس الفلسفي الفائح من بين خمائل نتاج التُّرَابِي الفكري، تذكرت جملة من ترجمة شيخي حافظ الإسلام شمس الدين الذهبي للإمام ابن حزم رحمهما الله: “وكان قد مهر في الأدب والأخبار والشعر وفي المنطق وأجزاء من الفلسفة، فأثرت فيه تأثيرا ليته سلم من ذلك..”، وإن كانت لي مطالب في الفلسفة منذ أخذت دروسها عن أستاذي الجليل فيها الأستاذ الحُسين ولد أحويبيب، بل أدعي أني فهمت جملة من مباحث الفقه والقانون بمدارك فلسفية.. لقد عطل فريق من علماء المسلمين العقل تفريطا، فكان لذلك أثر سلبي محسوس على الفكر الإسلامي، لأن الشرع الإسلامي في الحقيقة خطاب للعقلاء.. لكن ردة فعل فريق آخر من أهل العلم المسلمين أفرطت في الاتجاه المخالف، فتطرفت في إعمال العقل حتى طاولت به الثوابت المقررة في الشرع بالنقل الصحيح، حيث لا مجال للعقل في ذلك، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “لوكان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح”، ولعل التُّرابي في الفريق الأخير.. يستقر عندي من أدلة قصور العقل أن جملة آراء واجتهادات الترابي العقلية في مجال الحياة فشلت في الواقع بممارسته بنفسه وبممارسة كبار تلامذته.. شخصيا أرفض بالأدلة النقلية الثابتة كثيرا من آراء الشيخ التُّرابي، وخاصة منها ما يتعلق بإمامة المرأة والإعتراض على أحاديث المهدي، ونزول عيسى، وخروج الدابة، وعذاب القبر، وحَدِّ الرجم، وغيرها.. لكن ذلك لا يحملني على نُكران مركزه في مجال العلم والفكر، وخدمة الإسلام والناس، وذلك تحت القاعدة الجليلة “التماس أحسن المخارج للمسلمين فيما ذهبوا إليه” وبمبررات مستفيضة.. حملت إلينا نُقول العلماء الأثبات أن الصحابي البدري الجليل قُدامة بن مظعون رضي الله عنه شرب الخمر مستحلا لها تأويلا لقول الله تعالى: ، وتبعه في ذلك أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وجماعة بالشام، واتفق الصحابة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عدم تكفير قدامة رضي الله عنه بهذا التأويل الذي لم ينقض سابقية القوم وجهادهم ومكانتهم في الإسلام.. ينقل السيوطي في تاريخ الخلفاء عن السِّلَفي في الطيوريات بسنده عن ابن المبارك أن الخليفة هارون الرشيد هَمَّ بجارية من جواري أبيه فامتنعت قائلة إن والده استمتع بها فأرسل إلى قاضي القضاة أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة يستفتيه في المسألة، فردَّ عليه بأن الجارية غير مأمونة، فكان ابن المبارك يقول: “لا أدري من أيهم أعجب من أمير المؤمنين يريد جارية أبيه، أو من فقيه الأمة وقاضيها يقول له اهتك حرمة أبيك واقض شهوتك، أو من الجارية ترغب بنفسها عن أمير المؤمنين”.. ومع ما يَرِدُ من تشكيك على الفتوى وقصتها، وعلى مجمل ما في الطيوريات عن خلفاء بني العباس فإنها لم تؤثر على مكانة أبي يوسف في العلم والإمامة ولا في مكانة الرشيد.. ساق الإمام الحجة ابن القيم رحمة الله عليه ـ وهو من أكثر من قرأت لهم ـ في كتابه الرُّوح أشياء مستغربة لا يقوم عليها دليل، وتخالف مذهبه الذي تلقيته قراءة لمؤلفاته، لكن العلماء اعتذروا عن ذلك بأنه ربما كان من أول كتبه قبل أن يتروى بالعلم، ولم تؤثر تلك الأشياء في مكانته وعلمه وخدمته للإسلام.. الأمثلة في هذا الاتجاه تتساوق وتضطرد، وتمر بنا بكثير من جلة العلماء عبر التاريخ الإسلامي، ومُؤداها أن شذوذ الرجال وخروجهم عن الصحيح والثابت ـ وإن لم تجز متابعتهم عليه ـ لا يمنع من الإعتراف بفضلهم ومكانتهم، فضلا عن الترحم والترضي عليهم، والسلوك معهم مسلك حسن الظن والتماس أحسن المخارج.. وفي هذه الساحة التقي بالشيخ الدكتور حسن الترابي، فقد بذل وسعه وأعمل عقله متسلحا بمعارفه الشرعية والفلسفية الجمة من أجل عقيدته ودينه وأمته، وكان في خاصة نفسه ملتزما دَيِّنًا.. تُورد بعض كتب التراجم أن القاضي أحمد بن أبي داوود صلى على أبي الهُذيل العلاف رأس المعتزلة، فكبر عليه خمسا، وصلى على جنازة أخرى فكبر عليها أربعا فقيل له في ذلك، فقال إن أبا الهُذيل كان يتعصب لبني هاشم فصليت عليه صلاتهم.. تذكرت هذه القصة وأنا أهم في خاتمة هذه الأسطر بالدعاء للشيخ حسن الترابي بالدعاء المأثور المتضمن الوقاية من عذاب القبر، وهو ينفيه، فخطر ببالي أن أقتصر على الترحم عليه فقط دون الدعاء له بالنجاة من عذاب القبر، معاملة له برأيه فيه، ثم استحضرت أني أردُّ رأيه هذا فيما أرد من آرائه.. اللهم إن حسن عبد الله التُّرابي في ذمتك وحبل جوارك فقه فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق فاغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم.. أحمد عبد الله المصطفى