النظام في ورطة

لم يعد خافيا أن النظام القائم قد أوقع نفسه أو أوقع (بضم الهمزة وكسر القاف) في ورطة حقيقية، ولا يبدو أن هذا النظام يمتلك من القدرات والمؤهلات ما يمكنه من الخروج ـ وبكلفة مقبولة ـ من هذه  الورطة التي وقع أو أوقع فيها.

لقد وقع النظام القائم من رأسه حتى أخمص قدميه في ورطة حقيقية، فكان للرئيس نصيبه من هذه الورطة، وكان للحزب الحاكم نصيبه، وكان للحكومة نصيبها من هذه الورطة. الرئيس في ورطة مرت سنوات الرخاء بسرعة، وبدد الرئيس ما جادت به تلك السنوات من ثروات طائلة، ولما جاءت سنوات العسر المثقلة بالأزمات والفضائح قرر الرئيس أن يواجهها بفرض المزيد من الضرائب، وبمواصلة خفض قيمة الأوقية بصمت وعلى أقساط، وفصل المزيد من العمال، مع عدم التوقف عن سرقة المواطن من خلال بيع المحروقات السائلة بأسعار مجحفة، وفي المحصلة النهائية فقد أدى ذلك كله إلى خلق المزيد من الاستياء والاحتقان لدى المواطن. في مثل هذه الوضعية الصعبة وجد الرئيس نفسه وهو مكشوف الصدر أمام سهام خصومه، ولم يجد بجواره من يمكن أن يمد له يد العون : “أغلبية داعمة” في حالة شرود وإحباط؛ حكومة مرتبكة ومنشغلة بصراعاتها وحروبها الداخلية؛ مجموعة من الشعارات الميتة التي  لم يعد فيها أي شعار يمكن أن يبعث من جديد؛ أزمة اقتصادية وسياسية خانقة؛ حراك شبابي مقلق؛ ومهرجانات حاشدة للمعارضة في العاصمة وفي المدن الشرقية.. حاول الرئيس أن يفشل مهرجانات المنتدى في الشرق الموريتاني، فألقى بالولاة والوزراء في ساحة المعركة، ولما انكشف غبار المعركة، تبين أن النتيجة كانت صادمة، وأن الخسارة كانت ثقيلة: 3 مقابل 0. كانت الرسائل القادمة من الشرق الموريتاني واضحة، وكانت تقول بلغة صريحة وفصيحة بأن الولايات الشرقية لم تعد كما كانت، وبأن هذه الولايات التي كانت تصنف في الماضي على أنها مجرد “خزان انتخابي” قد بدأت تتحول إلى “خزان معارض”، بل أكثر من ذلك، فإن هناك إشارات عديدة تقول بأن مركز ثقل المعارضة قد يتحول في المستقبل المنظور من مغرب البلاد إلى مشرقها. كانت الخسارة ثقيلة، ولذلك فقد كان من الضروري أن تقوم السلطة بشيء ما للرد على المعارضة، وللتخفيف من وقع هذه الخسارة الثقيلة، فكانت زيارة الرئيس لمؤسسات تعليمة وصحية في ولاية نواكشوط الجنوبية. لم تكن الزيارة مفاجئة فقد علمنا بموعدها من قبل يوم من القيام بها، ولم تكن زيارة للتدشين، فلا شيء هناك قد أصبح جاهزا للتدشين، ولم تكن زيارة تفقدية كما قيل، فسكان الأحياء المزورة قد منعوا من لقاء الرئيس، ومن تمكن منهم من الاقتراب منه لم يخف تذمره واستيائه.. لم تكن هذه الزيارة زيارة تفقدية، ولا مفاجئة، ولا زيارة من أجل التدشين، وإنما كانت مجرد ردة فعل مرتبكة على مهرجانات المنتدى الحاشدة في الشرق الموريتاني. ولقد كان من الضروري أن يرد الرئيس على المعارضة على هامش زيارته هذه، وهنا وجد الرئيس نفسه في ورطة حقيقية، فهو من جهة لا يستطيع أن يقول بأن البلاد تعيش في ظل أزمة اقتصادية خانقة، فمثل ذلك القول سيشكل تصديقا ودعما لخطاب المعارضة، وهو من جهة أخرى لا يستطيع أن ينفي وجود أزمة، فنفي الأزمة، يستوجب تخفيض أسعار المحروقات، والتوقف عن فصل العمال، والحد من الضرائب، والتخفيف من معاناة الناس، ومن المعلوم بأن الرئيس  لم يستطع أن يخفف من معاناة الناس في سنوات الرخاء، فكيف له أن يفعل ذلك في سنوات العسر والشدة؟ لقد وجد الرئيس نفسه في ورطة حقيقية، فهو إن قال بأن البلاد تعيش في ظل أزمة اقتصادية يكون قد أكد دعوى المعارضة، وإن قال بأن البلاد لا تعاني من أزمة فإنه يكون بذلك قد أقام الحجة على نفسه، وقد أكد بان طريقته في تسيير وتدبير شؤون البلاد هي التي أوصلت البلاد إلى هذا الواقع البائس الذي تتخبط فيه اليوم. لم يكن أمام الرئيس إلا أن يقول بأن البلاد لا تعيش في أزمة (وهنا يكون قد كذب المعارضة)، وأن يقول في الوقت ذاته بأن العالم من حولها يعاني من أزمة، وموريتانيا هي دولة من هذا العالم، وفي ذلك محاولة لتبرير نظامه من هذا الواقع الصعب الذي يعيشه المواطن الموريتاني. إن الرئيس يعلم من قبل غيره بأن البلاد تمر بأزمة اقتصادية خانقة، ولا يهم من بعد ذلك أن يعترف علنا بتلك الأزمة أو لا يعترف بها، ويعلم الرئيس من قبل غيره بأن هناك مخرجين من هذه الأزمة: مخرج اقتصادي، وهذا يصعب تحقيقه في هذه الفترة، حتى وإن صدرت البلاد كل حميرها إلى الصين، ومخرج سياسي ويتمثل هذا المخرج في خلق توافق سياسي يمكن من عبور هذه الأزمة التي تتخبط فيها البلاد  بتكاليف وخسائر أقل. وبما أن المخرج الاقتصادي صعب التحقق، فيبقى الخيار الوحيد المتاح أمام الرئيس هو المخرج السياسي، ونقطة الانطلاق في هذا المخرج هي الحوار الجدي والشامل، وهنا سيجد الرئيس بأنه قد وقع في ورطة حقيقية، وذلك بعد أن ضيع فرصا عديدة كان بإمكانه أن ينظم فيها حوارا بتنازلات أقل. لقد تغيرت أمور كثيرة في الفترة الأخيرة، فقد تراجع مستوى حماس الأطراف الأكثر اعتدالا في المعارضة، فهذه الأطراف كانت قد أظهرت في الأشهر الماضية تحمسا كبيرا للحوار، ولكن السلطة تعاملت مع ذلك الحماس بسلوك صبياني وبعناد غبي الشيء الذي عزز من حجج الأطراف الأقل تحمسا للحوار في صفوف المعارضة. هذا السلوك الغبي الذي تعاملت به السلطة مع الأطراف الأكثر اعتدالا في المعارضة دفع بهذه الأخيرة إلى أن تجمد ملف الحوار، و أن تلجأ إلى الشارع، فإذا بالجماهير تحتضنها حتى في تلك المدن التي لم تعرف في السابق بأنها مدن معارضة. ويمكنكم أن تلاحظوا بأن قادة المنتدى لم يتحدثوا عن الحوار في مهرجاناتهم بالمدن الشرقية، وقد كانت هناك توصية قوية من اللجنة المشرفة على تلك المهرجانات بذلك، بينما سارع الرئيس للحديث بطريقة مهزوزة عن الحوار على هامش زيارته لبعض المرافق العامة في نواكشوط الجنوبية، ويبدو أن الرئيس قد أدرك أخيرا بأنه قد أوقع نفسه في ورطة حقيقية، وبأنه قد أضاع فرصا يصعب أن تتكرر، وربما يكون قد أدرك أيضا بأن الوقت لم يكن في صالحه، وبأن نظامه يزداد ضعفا مع مرور الوقت، وأن المعارضة تزداد قوة وقبولا في الشارع الموريتاني. الحزب الحاكم في ورطة لقد وجد الحزب الحاكم نفسه وهو في ورطة حقيقية، وذلك بعد أن سحبت منه كل صلاحيات الأحزاب الحاكمة، ولم يعد لديه ما يفعله سوى إصدار بيانات التعازي من حين لآخر، ولذلك فلم يكن من المستغرب أن تمنح مهمة “التشويش” على مهرجانات المنتدى في الشرق الموريتاني للحكومة، وأن تسحب تلك المهمة من الحزب الحاكم. لقد وجد الحزب الحاكم نفسه وهو في ورطة حقيقية، فهو إما أن يرضى بالتهميش، ويقبل بأن يعامل بما تعامل به الأحزاب الصغيرة في “الأغلبية الداعمة”، وإما أن يكون حزبا حاكما حقيقيا، الشيء الذي يترتب عليه تلقائيا أن يبدأ الحزب ـ ومن الآن ـ في إجراءات سحب الثقة من حكومة “ولد حد أمين”، التي كانت قد سحبت من هذا الحزب كل صلاحياته، وبما في ذلك مهام التشويش على مهرجانات المعارضة..فهل سيفعلها الحزب الحاكم؟ لا أعتقد بأن حزب بيانات التعازي سيفعلها. الحكومة في ورطة إن انشغال الحكومة بمنافسة الحزب الحاكم في مهامه، وانشغال أعضائها بصراعاتهم وحروبهم الداخلية قد أوقع الحكومة في ورطة حقيقية، وجعلها عاجزة تماما عن تأدية أبسط المهام الموكلة إليها، الشيء الذي أدى في المحصلة النهائية إلى الزيادة من تذمر واحتقان المواطن، وبالتأكيد فإن ذلك سينعكس سلبا على النظام القائم في مجموعه : الرئيس؛ الحكومة؛ الحزب الحاكم و”الأغلبية الداعمة”. من المعروف بأن الأنظمة الحاكمة تحتاج في ظل الأزمات إلى فريق حكومي متجانس ومشكل من كفاءات تتفرغ للمهام الموكلة إليها، فحكومة بتلك المواصفات سيكون بإمكانها التخفيف من الآثار السلبية للأزمات. يمكنكم أن تلاحظوا بأن كل تلك المواصفات غائبة تماما عن الحكومة الحالية، ولذلك فإن هذه الحكومة لن تكون قادرة على تسيير شؤون البلاد في ظل هذه الظرفية الصعبة، وسينعكس عجزها ذلك على الوضعية العامة للبلاد، وهو ما سيزيد بالتالي من توريط النظام القائم ومن إضعافه.

حفظ الله موريتانيا..

محمد الأمين ولد الفاضل

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى