الإعلام.. حضور ملموس و ضعف محسوس
أبرزت الندوة القيمة، التي نظمها المركز العربي الافريقي للإعلام و التنمية في نواكشوط، حول تجربة خمس سنوات من تحرير الفضاء السمعي البصري تقييما و مراجعة و سبر آفاق،المستوى العالي لفهم مسألة الإعلام في الصميم عند أصحاب المداخلات الرصينة و التعقيبات المكينة و المداخلات العالية..
دون أن يتجاوز الأمر مطلقا إلى أسباب المقيدات و المثبطات و العوائق التي ترتبط بشكل عضوي بالخلفية الثقافية و التاريخية و الاجتماعية و السياسية و التي تحول دون ترجمة هذا الفهم العالي إلى ممارسة بناءة و سلطة رابعة منظمة تنظيما يتجاوز الذاتية إلى السياسي و الاجتماعي؛ و هو الفهم الذي يحمل متنه كلام إعلامي بالغ بكل مقاييس المادة الإعلامية كما أثبت ذلك مرارا و تكرارا تبوء إعلام البلاد المرتبة الأولى في الوطن العربي الذي يمتلك إعلام أغلب دوله كبير الوسائل و عميق التجربة و رفيع التكوين، و كما يوطد ذلك ألمعية و جدارة الذين يلتحقون بالإعلام العربي و العالمي.
في الواقع لم تعد مسألة الإعلام بهذا التعقيد الذي يصر إعلاميو و سياسيو و قانونيو هذا البلد عليه في كل اللقاءات تماما مثلما لم تعد معقدة مسألة تحديد مواقع الدول مهما صغر حجمها على الخريطة الأرضية كـ”بابوزيا غينيا الجديدة” في المحيط الهندي، و التعرف على شعوبها أيا كانت سلالتها أو خصوصياتها الثقافية و الانتربولوجية كشعوب “الأبورجين” في أستراليا أو “المايا” في أمريكا اللاتينية أو “انمادي” في موريتانيا أو أسباب الحروب الأهلية و الدكتاتوريات في أي بلد من أية قارة، لأن الإعلام و وسائله و سرعة تطور تقنياته قربوا القارات و رفعوا الأستار و كسروا الحواجز و دمجوا الحضارات و سهلوا التبادل و دفعوا إلى نبذ التخلف الثقافي و العلمي و التقني و الاقتصادي.
و إذا ما تم من هنا تجاوز أن الإعلام هو ذاك المصطلح الذي يطلق على أي وسيلة أو تقنية أو منظمة أو مؤسسة تجارية أو أخرى غير ربحية، عامة أو خاصة، رسمية أو غير رسمية، مهمتها نشر الأخبار ونقل المعلومات، فإن الذي يتبادر جليا من بعد هذه المواصفات هو أن الإعلام يتناول مهاما متنوعة أخرى، تعدت موضوع نشر الأخبار إلى موضوع الترفيه والتسلية خصوصا بعد الثورة التلفزيونية وانتشارها الواسع. و يطلق على التكنولوجيا التي تقوم بمهمة الإعلام والمؤسسات التي تديرها اسم وسائل الإعلام، كما يُطلق على الأخيرة تعبير السلطة الرابعة للإشارة إلى تأثيرها العميق والواسع.
و إذ لم يعد إشكال فهم ماهية الإعلام و رسالته مطروحا مطلقا في هذه البلاد، فإن مواد “اختبار” التجاوز إلى مرحلة استخدام الإعلام لمسايرة دولة المواطنة المستظلة بالقانون و العاملة بمقتضيات الديمقراطية ما زالت متضمنة مرسبة و بضوارب عالية مادتي:
· “الاعتبارات الاجتماعية” الانتقائية بقوة مقياسي الارتقاء و الهبوط الموروثين عن مرحلة “السيبة” في مناهجها و قواعدها،
· و “النفاق و التملق” الموصلتين إلى حياض الأقوياء و الحاميين من البطش و الحرمان من متاع البقاء و الحضور.
و لا يخفى ذلك مطلقا على أي متتبع لحراك حقل الإعلام بكل مكوناته ما يكون من حضور هذه الصفات و تجليها في اختيار المشرفين في أعلى الهرم و من صناع المادة الإعلامية في وسط الهيكلة و أدوات تحصيلها و تقنيات الانتقائية الموجة في قاعدة هرم البنية؛ انتقائية تأخذ كل الأشكال و الصفات من “تلميعية” سياسية و قبلية و غرضية آنية و مرحلية، و من أخرى تملقية ابتزازية نفعية ربحية. و لا تنكر المخرجات في غالبها الأعم هذا التوجه الموغل في القدم و المطفف كيل الوعي اللازم أهمية الإعلام في معركة الوجود المتعثر.
و يبقى من المستحيل مع كل هذه الازدواجية المعشعشة و المخلة بكل قيم الوعي السليم و الفكر النزيه و الوطنية البناءة أن لا تنتصر عاجلا أم آجلا قوى التنوير الرافضة هذا الواقع المسيئ لرسالة الإعلام و الإعلاميين الشرفاء. كما أن الأمر سينسحب لا محالة على كل الجهات المشرفة على الحقل رسمية و تنظيمية و نقابية و سياسية و قانونية و غيرها مؤازرة و مستفيدة حتى يستقيم العود و يشمل الظل كل أهل الإعلام و كل المستهدفين برسالته البناءة إذ ليست المشكلة في الإعلام بقدر ما هي ثابتة في العقليات و ممتنعة عن الكف عن إصدار الأفعال المقيدة و عن تحدي إرادة التغيير.