الفلكلور بين ضرورة تقديره و خطورة تخديره/الولي ولد سيدي هيبه
من المعلوم أن الفلكلور الذي هو إبداع من نتاج الجماعة الإنسانية ككل في مجتمع و ليس من صنع فرد، يعني الفنون القديمة و القصص و الحكايات و الأساطير المحصورة لدى مجموعة سكانية معينة في أي بلد من البلدان، ويتم نقل المعرفة المتعلقة به من جيل إلى جيل عن طريق الرواية الشفهية غالبا دون أن يمنع ذلك كل جيل من إضافة أشياء جديدة أو حذف أشياء لتتوافق باستمرار مع واقع حياته . و أما أصل تسمية “فلكلور” فمأخوذ عن اللغة الألمانية (Volkskunde) ومعناها (علم الشعوب) و يقابلها باللغة العربية (التراث) الذي هو الإرث عن الأسلاف من الثقافة و التميز الحضاري. و لكن معظم الشعوب اليوم و قد وصلت بها ثورتها على التخلف و الظلامية إلى درجات عالية من رقي التفكير و بلغت من التحضر و العلم درجات تغيرت معها الأشياء و تحررت العقول من الخرافة و اندحرت الأسطورة، فإنها ظلت مستمسكة بفلكلورها محافظة عليه كجزء هام من شخصياتها و هوياتها و خصوصياتها و علامات بارزة لتميزها و اتزانها النفسي و رفاهيتها الفكرية التي تخفف عليها من وطأة العلمية المادية الكرتيزية. و لكن هذه الشعوب، التي تبنت القطيعة مع ما “قبل العقل و المنطق”، خلقت لفلكلورها الإطار الملائم حتى يظل حيا و رافد إلهام دون أن يشوش على الحاضر في حيويته و حريته و صناعته الدائبة للمستقبل الأكثر استجابة لمعطى الرقي العقلي و العطاء المادي؛ أطر سلسة و ديناميكية تجمع بين المتاحف و المسارح و المهرجانات تؤدي أدوارا متكاملة في حيز زمني معلوم و فضاءات مادية محددة لا تشوش على متطلبات الحداثة و في علاقة متوازنة مع الإعلام دون إفراط و لا تفريط. و قد استطاعت بلدان كالهند و الصين و البرازيل و غيرها أن تتجاوز عقدة “الهوية الضائعة” و تضييع وقت التنمية في الكرنفالات المفرطة، بتقنين عمل الحفاظ على الفلكلور من خلال تحديد نوعية مظاهره و عدد التظاهرات و تحديد فتراتها و حيزها في الإعلام و في مخرجاته حتى: · لا يصاب بالميوعة فلا يؤدي الدور المنوط به، · لا يمكن استغلاله في إحياء المدن القديمة و ميراثها الحضاري، · لا يستفيد من السياحة التي أصبحت أحد أهم أركان اقتصاديات الدول التي تمتلك رصيدا تاريخيا هاما و محط عناية سياح العالم المهتمين بتاريخ الحضارات و آثارها. و قد أدركت هذه الدول الخيط الفاصل بين سجن الفلكلور و ما يكتنفه من الأساطير و الخرافات المقيدة في صميم تشكيل السلوك الاجتماعي و ما يعنيه من حفاظ على الهوية و الخصوصية، فاتجهت إلى توظيفه علميا و اقتصاديا و ثقافيا و سياحيا بكل دلالاته و في كل جوانبه و إيحاءاته حتى أضحى إلى جانب التمكن من الحفاظ عليه ميزة و هوية، اقتصادا و مصدرا للعملة الصعبة و التشغيل. في هذه البلاد ما زال التمسك بالفلكلور يراوح مكانه متقمصا وحدها المظهرية الصاخبة بعيدا عن جهد التقشير و التقنين و التثمين، و تجاوز رديئه و غثه إلى استثمار سمينه و إدماجه في منظومة جديدة تجمع بين الأصالة و الحداثة و تعطي عن البلد صورة ناصعة و تبلغ رسالة سامية. و أما أن يستحوذ الفلكلور على كل وقت الإعلام التوجيهي، التهذيبي، الإرشادي و التثقيفي فذاك وجه آخر مخل بعملية البناء الإرشادي المتوازنة و أمر لا بد من إعادة النظر فيه حتى لا يتحول هذا الفكلور إلى مخدر و منوم و لاهي عن جوانب بناء الذات الأخرى الوطنية الديناميكية المشيدة لصرح لم يقم بعد في منعرج دقيق و عصر استثنائي بوعيه الطافح الذي طلق بدون رجعة مع الخرافية و الأسطورية. لا شك في أن إفراط القنوات التلفزيونية في تناول الفلكلور شعرا و رقصا و صناعة تقليدية و مديح نوي من غير تصحيح نصوصه و تنقيحها من الشوائب المخلة بالسيرة العطرة لسيد الأنام، و من التشبث بـ”الدراعة” لفظا بإطراء مفرط حضورا في ميدان العمل و كأن العري يسري على الأجساد و الأرواح من دونها و هي التي تفسد فيه أكثر مما تلائم، أمر لافت من خلال أمثلة و كأن هذا التراث هو الشغل الشاغل الأوحد لها و مربط تنافس المتنافسين لها قنوات تشيد في كل ركن خيمة شعر أو “مَرْجَعْ” رقص أو معرض أفلام وثائقية مكررة في الوصول به إنتاجا متشابها إلى الجماهير بأقل جهد إبداعي و على حساب جوانب الرسالة السامية لها بأوجه التحسيس بأضرار التخلف و التوعية بأهمية توظيف التراث لعملية التحول و التطور و الوعي الملتزم و لأن الانشغال المفرط بالفلكلور، و ضرورات التحول صارخة بالإلحاحية، أمر شبيه بالسير على جهاز المشي الرياضي الذي يبقي الشخص يسير دون أن يتحرك فعليا من مكانه و التوقف من دون الالتحام بمتطلبات الحداثة و كأنه الحياة في انتظار الموت”.